العبودية المّختارة..!
رنا علوان
يقول المُفكر الفرنسي إيتيان دو لا بويسيه في كتابه العبودية المُختارة [ Discours de la servitude volontaire ]
عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل ، تنشأ أجيالٌ من الناس لا تحتاج إلى الحُرّية ، وتتواءم مع الإستبداد ، ويظهر فيه ما يُمكن أن نُسميه [المواطن المُستقر ]
كُتب الكتاب في الأصل باللاتينية ، في عام 1574 على شكل أجزاء ، ثم كُتب بالفرنسية كاملًا في عام 1576 ، وكان عمر دو لا بويسيه زُهاء السادسة عشر أو الثامنة عشر من عمره ، ويعد بمثابة منفست لتحرير العبيد ، أشار إلى ذلك صديقه الحميم ميشيل دي مونتين ، نُشر الكتاب بشكل سري في عام 1577
منذ بدايات القرن السادس عشر كانت فرنسا ذات نظام ملكي طاغي ومستبد ، تناوب عليها مجموعة ملوك من أفراد العائلة المقدسة
ذاق الفرنسيون العذاب ، وخاصةً بعد أن اندلعت الحروب الفرنسية ضد إيطاليا وسويسرا ثم اصطدمت بالإمبراطورية الرومانية ، فضلاً عن أن الأوضاع الداخلية للشعب الفرنسي مزرية إبان الفقر والجهل والاعتقالات والتضييق
وما كان من الحاكم ، الا ان يُطرِب الفرنسيين بخطبه الرنّانة ضد القوى الخارجية بينما لم يكن المواطن الفرنسي الجائع الخائف يفهم ما يقوله حكامه ، فالذئب الذي يأكل لحم الفرنسيين موجود بالداخل لكن الملك يخبرهم أنه قادم من وراء الحدود
يبحث دولا بويسي في كتابه عن العوامل وراء خضوع للحاكم ، مع العلم أنه لا يملك أية سلطة غير ما منحوه اياها ، فلماذا يخضع الناس لسلطة هذا الرجل الذي يحكمهم وهم من منحوه السلطة التي بها يستعبدهم ويجردهم من حقوقهم ؟
لقد تضمنت دراسة لا بويسي عدة نماذج من الحكام المستبدين عبر التاريخ مثل حكام اليونان والرومان ، ما فتخ له المجال لنقد واقعه السياسي والرغبة في تحرير العبيد من بطش المستبدين
يبدأ دولا بويسي كتابه بمقولة ، (كلا ليس بطل أسطوري ) (ولا أرى خيرًا في تعدد الأسياد ) زكلامه مطابق لزمنه أكثر من مطابقته للحقيقة
إن البؤس الذي ليس كمثله بؤس هو خضوع المرء لحاكم لا يمكن الاطمئنان إلى صلاحه لأنه بمقدوره أن يكون شريرًا متى أراد ذلك ، وإن تعدد الأسياد هو مكابدة لأقصى البؤس مرارًا بعدد هؤلاء الأسياد
وعلى ضوء ذلك ، إن ما يريد أن يفهمه دولا بويسي هو الجواب على السؤال التالي : كيف أمكن لكثير من الناس والبلدات والمدن والأمم أن تتحمل أحيانا وطأة طاغية لا يملك من القوة إلا ما أعطوه ، ولا قدرة له على أذيتهم إلا بقدر ما أرادوا أن يتحملوا منه ؟
إن الجواب الذي يعطينا إياه دولا بويسي يتلخص على الشكل الآتي : إن الشعب يفضل المعاناة على المعارضة ، ثم إن رؤية الملايين من الناس يخدمون ، على نحو يرثى له والنير في أعناقهم من دون أن يكونوا مكرهين على ذلك ، [ مردّه إلى الافتتان والإعجاب والسحر من لدن شخص واحد ] ، وعلى الرغم من أن لا سلطة لديه على اعتبار أنه أعزل ووحيد ، وأن معاملته للشعب تفتقد للرحمة والإنسانية ، فإن الرعايا يقبلون الخضوع ! فلماذا الخضوع؟
يتساءل دولا بويسي ، إن نقطة ضعف البشر المركزية هي أنه يتوجب عليهم في أحيان كثيرة الخضوع للقوة ، إن الشعب يكون ضعيفًا في أحيان كثيرة ، وفي هذا الصدد يعطينا دولا بويسي مثالاً على ذلك : إن خضوع أثينا الديمقراطية لحكومة الطغاة الثلاثين الاسبارطيين ، يدل أن الشعب مهما كان قويا لابد أن يخضع تبعًا لظروف معينة ، هذا ما حصل لأثينا ، فهذه الأخيرة أول مدينة عرفت الديمقراطية في صيغتها التمثيلية المباشرة وإن كان يعتريها بعض مظاهر النقص لأن الأحرار دون غيرهم من كان يحق لهم التصويت والانتخاب والحكم ، مع إقصاء المرأة والعبد والأجنبي
يرى دولا بويسي أن الأثينيين فضلوا الصبر على الاستبداد وانتظار حظ أفضل في المستقبل!!!
هذا دفع دولا بويسي إلى صياغة جملة من التساؤلات : ما هذا ؟ كيف نسمي هذا ؟ أي بؤس هو ؟ أية رذيلة بائسة أن نرى عددا لا يحصى من الناس لا يطيعون، بل يخدمون ؟ لا يحكمون بل يضطهدون؟ لا يملكون شيئا لا أهل لهم ولا نساء ولا أطفال لهم
يضيف دولا بويسي أن هناك عاملين مهمين يخدمان قضية العبودية الطوعية وهما
[ الدين والخرافات ]
فهو ينظر للدين كأداة في يد السلطة الملكية للتأسيس والاستئثار بالسلطة [ وهو ما يراه (كارل ماركس) مؤسس الفكر الاشتراكي و(نيكولا ميكافيلي) الفيلسوف الإيطالي ] حين يقول
“إن الدين عنصر أساسي لدى الحكومات ، ليس لنشر الفضيلة ولكن للسيطرة على الناس” فالسلطة الملكية تستعمل رجال الدين لإقناع المواطنين بخرافة “الحق الإلهي للعائلة الملكية” القادم من السماء السابعة كما توظف الخطاب الديني لأجل التحكم في الغضب الجماهيري وانتهاج سياسة الإلهاء والتفرقة
لهذا السبب حاول هذا المفكر الفرنسي أن يطفئ نار الفتنة الدينية بين طائفتي الكاثوليك والبروتستانت داعيًا إلى التسامح وفاضحًا شر النظام الملكي آنذاك الذي حاول تغذية ذلك الصراع خدمة لأجندته ، في حين يقوم خدم البلاط في نشر الخرافات والتطبيل لمهارات الحاكم المبجّل من العبقرية والحكمة والبصيرة التي يتمتع بها جلالته
لقد أضاء إيتيان دو لابويسي على الحل لكل ما أتى على ذكره ، مختصرًا ذلك في [ تهديم قاعدة هرم التسلط ]
و[هرم التسلط] هو السلسلة التي تجعل الحاكم في قمته معبودًا من طرف الرعية في قاعدته أما ما بينهما فهم خدم البلاط ورجال الدين والاعلام والمستفيدين من الوضع والذين هم على تماس مباشر مع عامة الشعب
وعليه فالحل يكمن في اعلان العصيان والتمرد والقطيعة مع هؤلاء بشرط الشجاعة والارادة الكاملة في تحمل كل المترتبات لدفع الثمن كاملاً ، لأن الشعب الذي أوجد المشكلة يملك حلها بنفسه ويكفي أن يسحب هو قاعدته من الملوك ليسقطوا تلقائيا لأنه هو مصدر قوة هؤلاء الحكام أولًا وأخيرًا
ختامًا ، نخلص من دراستنا لكتاب “مقالة في العبودية المختارة “
[ أن الطغاة يستحوذون على السلطة ليس لأنهم يحسنون تدبير الحكم ، بل الأمر يرجع إلى قابلية الشعب للاستعباد بحكم العادة و التنشئة ]
ويلعب الجهل والدين دورًا كبيرًا في إذلال الشعب ، لكن دولا بويسي يربط (الحرية بالشعب) لأن الحرية هي حق طبيعي يتساوى فيه جميع الناس
[إن الحرية هي العهد بين الإنسان والطبيعة]
وأن الشعب مفهوم مخترق من لدن الشعب نفسه …. فهناك فئة مستعبدة من الشعب تقبل الفتات … وتقف عائقًا في وجه الأحرار … وإن يكن ما يكن تبقى الحرية هاجسًا لدى الإنسان …. غير أن العبودية الطويلة تخترق الحرية ويلفها النسيان …. فمتى يتذكر الشعب الحرية
2023-05-26