الشعر بين السرقة .. والتأثر!
علي الامارة
….
في مقولة القاضي الجرجاني ( والسرق – ايدك الله – داء قديم وعيب عتيق .. ) اشارة واضحة الى قدم السرقات الشعرية التي يرجع النقد الادبي الكلام عنها الى القرن الاول الهجري حين ازداد الطلب على الشعر من قبل الخلفاء والامراء والولاة فلم يستطع اغلب شعراء ذلك الزمن من اللحاق بهذا الطلب فانتفعوا من النصوص الشعرية القديمة …
وفي مقولة القاضي الجرجاني ( و لا تكن كمن لا يرى السرق يتم الا باجتماع اللفظ والمعنى .. ) اشارة الى التفنن بالسرقات الشعرية والقدرة على اخفائها بحيث لا يكتشفها سوى المتخصص المطلع على التراث الشعري والمتعمق فيه ..
فاذا كان اغلب السرقات الشعرية في القرن الاول الهجري سرقات حرفية ( باللفظ والمعنى ) كسرقات الفرزدق التي دفعته للمثول امام القضاء اكثر من مرة وهو القائل (( ان ضوال الشعر عندي احب الي من ضوال الابل )) – الموشح – وقد سرق من ذي الرمة ابياتا وقال له (( اياك ان يسمعها منك احد فانا احق بها منك (( – الموشح – كما اغار على شعر الشمردل اليربوعي وقال له (( لتتركن هذا البيت او لتتركن عرضك )) فقال له الشمردل (( خذه لا بارك الله لك فيه )) – الموشح – وكذلك فعل مع المتلمس وغيرهم ..
فان السرقات الشعرية في القرنين الثالث والرابع الهجري تطورت بتطور الشعر الا ان النقد الادبي تطور هو الاخر وصار اكثر عمقا واستقصاء وتمييزا بين المبتكر من الشعر والمصنوع او الماخوذ بطرق مختلفة من التراث الشعري ، لذلك لم يسلم من تهمة السرقة الشعرية حتى مثلث الشعر العربي المهم الذي يمثل اعلامه ابو تمام والبحتري والمتنبي فهذا الجرجاني – القاضي نفسه يخرج للمتنبي اكثر من 500 سرقة شعرية منها ( 141 ) سرقة من ابي تمام فقط ، اما الامدي فقد اخرج للبحتري في – الموازنة – ( 600 ) سرقة شعرية منها ( 100 ) من ابي تمام فقط ، وابو تمام هل سلم هو الاخر من هذه التهمة ؟ لا طبعا فالامدي نفسه يخرج لابي تمام في – الموازنة – ( 120 ) سرقة ، اما ابن العلاء السجستاني في – العمدة – فقد قال عن ابي تمام (( انه ليس له معنى انفرد به فاخترعه الا ثلاث معان )) !
من هذه الارقام يتضح لنا مدى التاثر والاقتباس والاتكاء والتناص او السرقة للمعاني الشعرية عند شعراء العرب الكبار حتى ان القاضي الجرجاني في معرض دفاعه عن المتنبي في – الوساطة – قال ان هناك معاني مشتركة لا يجوز عدها مسروقة ، وهذه المعاني المشتركة اسماها الامدي – اتفاقا – وهي معان او الفاظ غير محظورة على احد ما .
بل ان الجرجاني اطلق على بعض سرقات المتنبي بالسرقات الممدوحة ويقصد بها تطوير المعنى الشعري المطروق في بيت سابق وصياغته بلفظ اكثر جزالة وايجازا وابهى تركيبا وبناء وبالتالي يصبح البيت اجمل من البيت الماخوذ منه .. وعد بيت المتنبي :
على قدر اهل العزم تاتي العزائم
وتاتي على قدر الكرام المكارم
ماخوذا من قول عبد الله بن طاهر :
ان الفتوح على قدر الملوك وهمات الولاة واقدام المقادير
، ولكن بيت المتنبي ابلغ واكثر رسوخا في الذاكرة ..
وكذلك ابن الاثير في – الاستدراك – الذي يفضل بيت سلم الخاسر :
من راقب الناس مات هما
وفاز باللذة الجسور
الماخوذ من بيت بشار بن برد :
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
وقال ان بيت سلم اكثر ايجازا وبلاغة من بيت بشار .
فاذا كان الجرجاني في القرن الرابع الهجري يتكلم عن حجم الموروث الشعري وصعوبة استقصاء السرقة الشعرية فماذا نقول نحن بعد ان مر اكثر من الف ومئة سنة على عصر الجرجاني وازداد الموروث الشعري اضعافا من ناحية ، وانفتح ادبنا على اداب اجنبية بعد تطور الترجمة وسهولة الاتصال من ناحية ثانية ..
وهل سلم من تهمة السرقة او الاقتباس او الافادة او التاثر شعراء كبار من هذا العصر ؟ لا طبعا .. فقد ذكر د . عبد الواحد لؤلؤة في كتابه – النفخ في الرماد – تاثر الرواد ببعض الشعراء العالميين وذلك للتشابه الكبير بين بعض نصوص الرواد ونصوص اجنبية مثل تشابه قصيدتي ( انشودة المطر ) ( من رؤيا فوكاي ) للسياب مع قصائد من مجموعة ( انشودة الوردة ) للشاعرة اديث ستويل .
والتهمة ذاتها لم يسلم منها بعض شعراء الستينات لا سيما الذين يجيدون لغة اخرى لانهم اوائل المطلعين والمستفيدين من الفن الشعري غير العربي سواء بالافكار او طريقة الكتابة ، شانهم شان الرواد الذين يجيدون لغة اخرى في زمن ندرت فيه المصادر الاجنبية او ترجماتها فيشير د . عبد الواحد لؤلؤة الى ان ديوان ( انشودة الوردة ) كانت منه نسخة وحيدة في العراق عند جبرا ابراهيم جبرا وقد اعارها الى السياب ولم يرجعها له !
ومع كل جيل جديد او ( هبّة ) شعرية تحصل هذه التاثرات بمستويات مختلفة ..
في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات حصلت ( هبّة ) قصيدة النثر واطلعنا على نصوص جديدة نالت الاستحسان والاعجاب حد ان راها بعضنا تاسيسا واطلق على بعض شعرائها بـ(المهمين) .. ولكن بعد ان سقطت اوراق الخريف لاحت الاغصان المطعمة فعرفت المرجعيات والاصول فعرفنا ان بعض هذه التجارب منقولة او مركبة او مولـّفة – من التوليف – ثم تاكد ذلك ان هؤلاء لم تتطور تجاربهم وبقيت في حدود (( اهميتها )) .
اما التجارب الاصيلة من ( الهبّة ) نفسها فقد تبلورت وتطورت واصبحت طريقة ..
واخيرا لا بد ان نشير الى ان المدى بين السرقة والتاثر واسع وكبير يمر بالاخذ والاقتباس والاستفادة والاتكاء والتحوير والاتفاق والتناص .
ثم لم تزل هناك اقوال يمكن التحجج بها مثل ان الاوائل لم يتركوا للاواخر مجالا الا خاضوا فيه .
او مقولة ايلوار (( ان الاسد مجموعة خراف مهضومة )) ، او مقولة المتنبي (( ان الشعر جادة وقد يقع الحافر على الحافر )) ..
او نعود الى بيت سلم الخاسر :
من راقب الناس مات هما وفاز باللذة الجسور
المسروق هو الاخر من بيت بشار .. ! ؟
2023-08-31