الشرق الأوسط : متاهة واشنطن في عصر الانهيار!
توفيق سلام
حين اعتلى دونالد ترامب عرش البيت الأبيض، لوّح أمام العالم براية الانكفاء، متحدثًا عن نهاية حروب الرمال والدم، ومبشرًا بعصر تعود فيه أمريكا إلى ذاتها، منصرفة عن مغامرات الخارج. لكن ما إن دارت عقارب السلطة في يده، حتى انقشعت أوهام السلام، لتتكشف الحقيقة القديمة، أن الإمبراطوريات لا تحسن الانسحاب، بل تغرق أكثر كلما أوغلت في الطرق الوعرة.
تورط أمريكا
في اليمن، حيث تمتد رمال الجزيرة العربية بحرًا من الصبر والألم، تورطت واشنطن في حرب لم تختر ساحتها بعناية، ولم تحسب عواقبها بدقة. أرسلت حاملات طائراتها وقطعها البحرية وغواصاتها إلى البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب، وكأنها تعلن عن نشوب حرب عالمية مصغرة فوق أمواج البحر الأحمر، وظنت أن قنابل القاذفات والصواريخ ستخفت عزائم الرجال الذين أقسموا، على مساندة ودعم الشعب الفلسطيني، وأن لا تمر سفينة فوق مياههم إلا وقد دفعت ضريبة الموقف.
كان الحل السهل أمام واشنطن أن تتوقف الحرب على غزة ويرفع الحصار عنها ودخول المساعدات الغذائية، لتتوقف معها عمليات اليمن في البحر الأحمر.
أشهرت أمريكا سيف قوتها في وجه الفقراء، متناسية أن الشعوب المقهورة تخلق من جراحها معجزات. فكل صاروخ أُطلق على مرافئ اليمن، وكل قنبلة سقطت على أحياء سكنية في صنعاء ومدن يمنية أخرى في استهداف المدنيين ، تنحت في جسد أمريكا ندبة جديدة في تاريخها الإجرامي البشع.
المفاوضات النووية
وفي الوقت الذي كانت فيه النيران مشتعلة فوق البحر الأحمر، كانت محادثات أخرى تتشكل بعيدًا عن الأضواء، في مسقط وروما، حيث تخوض واشنطن وطهران جولات تفاوض حذرة حول البرنامج النووي الإيراني.
شهدت الجولة الثالثة من المحادثات تقدمًا ملحوظًا، حيث اتفق الجانبان على لقاء جديد، بتنسيق سلطنة عمان التي تتوسط بين العاصمتين. ورغم وصف مسؤولين أمريكيين وإيرانيين للمفاوضات بأنها “مثمرة”، و”ايجابية”، إلا أن الطريق لا يزال محفوفًا بالقضايا العالقة. وكشف وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية سيشارك في الجولة المقبلة، مؤكداً أن النقاشات تركز حصراً على الملف النووي، دون التطرق إلى قضايا أخرى، رغم دخول خبراء اقتصاديين إلى فريق التفاوض لأول مرة.
ورغم أن طهران وواشنطن وصفتا الأجواء بـ”الإيجابية والبنّاءة”، إلا أن عراقجي أقر باستمرار وجود ثلاث طبقات من الخلافات: خلافات خطيرة جدًا، وأخرى أقل خطورة، وأخرى معقدة بطبيعتها.
وفيما أعرب الرئيس ترامب عن أمله في التوصل لاتفاق سريع، ولم يتخل عن تهديده العسكري، مصرحاً بشعار يحمل رسائل مزدوجة: “نفضل الاتفاق على إلقاء القنابل”، مشددًا على أن كل الخيارات، بما فيها القوة العسكرية، تبقى على الطاولة.
أما سلطنة عمان، التي حملت عبء الوساطة الثقيلة، فقد تحدثت بحذر عن “تطلعات مشتركة” للتوصل إلى اتفاق قائم على الاحترام المتبادل والالتزامات المستدامة.
غير أن الاتفاق الحالي يضع حدًا لأصابع الامريكيين التي تعبث بخرائط الاتفاق النووي الإيراني في مسقط وروما وعلى أعتاب جولات جديدة، تحاول واشنطن أن ترسم خطوطًا حمراء تحت تهديد القوة العسكرية. إذ بلغت طهران عتبة التخصيب النووي 60%، ما اعتبرته الولايات المتحدة تهديدًا خطيرًا على أمن إسرائيل والجيران.
إسرائيل التي لا تعرف صبر الدبلوماسيين، تدفع بأمريكا نحو الخيار العسكري، فيما تحاول واشنطن جاهدة أن توازن بين الغضب الصهيوني وحسابات البقاء في لعبة الشطرنج الإقليمية.
أمام ذلك، عرضت الإدارة الأمريكية على طهران سلسلة من الحوافز منها: ادخال شركات استثمارية أجنبية، وتخفيف العقوبات، وتزويدها بيورانيوم مخصب بنسبة 3.67% لأغراض البرنامج النووي السلمي، مقابل تجميد وتفكيك برنامجها النووي؛ لتضعه تحت الرقابة وإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية. كما تشترط ربط البرنامج الصاروخي ضمن البرنامج النووي الإيراني في المحادثات، بمعنى توقيف إنتاج الصواريخ. بالإضافة لفك الارتباط مع محاور المقاومة في المنطقة.
لكن السؤال الذي يخيم على المشهد: هل ستقبل إيران بشروط تعني تجريدها من أدوات الردع الاستراتيجية؟ أم أن لطهران رؤيتها الخاصة لتبريد الجبهات دون أن تفقد أوراق قوتها؟
ورغم التصريحات الإعلامية التي تلوح بتقدم المشاورات، لا تزال المسافة بين الطرفين أبعد من أن تجسرها الابتسامات الدبلوماسية.
الوكالة الدولية للطاقة الذرية سيكون لها رأي في النقاشات. وفي خلفية هذه المعركة الكبرى ترتسم ملامح صفقات خفية أسلحة وأموال بالمليارات من دول خليجية، ضمن سلسلة هذه المفاوضات، التي تضغط واشنطن أن يكون الملف اليمني ورقة مساومة إضافية على طاولة الإتفاق النووي.
حتى الآن لا أحد يعرف تفاصيل الاتفاق، بيد أن هذه اللحظة الحرجة، لا تبدو واشنطن أنها قادرة على تمرير كل الأوراق، وإملاء شروطها على الطاولة، كما كانت تفعل ذات يوم. والتهديد بورقة الحرب، تكشف عن نوايا واشنطن ضرب إيران تحت أي ذريعة، فهي تفاوض بأظافر مكشوفة، وتحاول تجميل تراجعها باتفاقات قد لا تصمد أمام أول عاصفة.
أمريكا أسيرة تصور قديم
غير أن المشهد حتى الآن يبدو أكثر قتامة، فبينما تحاول واشنطن نزع فتيل الأزمة مع إيران عبر بوابة مسقط، كانت تشتعل جبهات أخرى، من أوكرانيا إلى مياه آسيا الشرقية.
هناك، بعيدًا عن وهج الإعلام، كانت إدارة ترامب تسحب بطاريات باتريوت من اليابان وكوريا الجنوبية لإعادة انتشارها في الشرق الأوسط، كمن يترك حصنه أمام العاصفة، ليطارد سراب الرمال. فتراجعت أولويات الصراع مع الصين، بينما تورطت واشنطن في معارك لا نصر فيها ولا انسحاب مشرّف.
وفي أوكرانيا، تسير الحرب على دماء الغرباء الذين جندتهم صفقات المرتزقة، لتحول البلاد إلى رقعة شطرنج دامية، تراهن فيها واشنطن وأوروبا على تدمير روسيا، غير عابئتين بأرواح المدنيين ولا حرمة الحضارة. وها هو زيلينسكي يذهب إلى جنوب إفريقيا لاستجلاب مرتزقة أفارقة، فيما يتهم الكرملين المخابرات الأوكرانية بالوقوف وراء العملية الإرهابية لتصفية نائب رئيس الأركان الروسية الجنرال موسكاليك، وهذا يعني أن أوروبا وكييف تسعيان لتخريب عملية السلام.
نجاحات القوات الروسية بتحرير مقاطعة كورسك الروسية هزيمة مدوية لنظام كييف، تفقده أدوات الضغط، وتضع زيلينسكي أمام تطورات دراماتيكية أما أن يقبل بالتفاوض أو هناك مناطق جيو ستراتيجية ستسقط من تحت يده.
في كل منعطف، كانت الولايات المتحدة تؤكد أنها أسيرةٌ لتصور قديم عن العالم، تسعى من خلاله إلى إعادة تدوير الاستعمار تحت مسميات العولمة والأمن الجماعي.
لكن رياح هذا القرن لم تعد تهب لصالح القوة المجردة، بل لأولئك الذين يقرؤون نبض الشعوب ويفهمون أن الكبرياء الجوفاء لا تقيم إمبراطوريات بل تهدمها.
النتيجة الطبيعية كانت تدهور صورة واشنطن، لا في عيون خصومها فحسب، بل في مرآة حلفائها، الذين بدؤوا يتساءلون بصمت مرتاب: هل ما تزال أمريكا شريكًا موثوقًا؟ أم أنها سفينة تتقاذفها أمواج التردد والغطرسة في آن واحد؟
وهكذا تقف الولايات المتحدة عند تخوم الحقيقة المرة، أن القوة وحدها لا تصنع المستقبل، وأن الحروب الصغيرة قد تكون شراكًا للفناء الكبير .
هناك تحولات دراماتيكية في مشهد الشرق الأوسط، حيث بدأ الانسحاب الأمريكي، كما بشّر به ترامب، إذ لم تنتصر فيه كما حلم البنتاغون؛ بل غرقت بين الإثنين، في منطقة رمادية يحكمها العجز والارتباك .
وهذا يعني أن هناك ترتيبات جديدة في مشهد الشرق الأوسط، حيث قررت واشنطن الانسحاب من العراق في غضون أسابيع بدلاً عن عام ونصف العام، والابقاء على قوات فنية، وعلى ذات السياق تُقلص وجودها العسكري في سوريا.
ويبقى السؤال معلقًا فوق رؤوس صناع القرار الأمريكي: هل هناك تحضيرات لمعركة كبرى مع إيران، وكم من حرب صغيرة يجب أن تخوضها أمريكا في الشرق الأوسط قبل أن تدرك أنها تغرق بأزمات كبرى بدأت تكتب سطورها الأولى، لا بأيدي خصومها، بل بأنامل ساستها .
2025-05-01