إذا كانت الميكافيليّة (Machiavellianism) كفلسفة وفقاً لتعريف قاموس أوكسفورد الإنجليزي: “هي “توظيف المكر والازدواجيّة (الخداع) في الكفاءة السياسيّة أو في “السلوك العام”. فهي أيضاً مصطلح يعبر عن مذهبٍ سياسيّفي إدارة الدولة والمجتمع, يقوم على تطبيق مقولة “الغاية تبرر الوسيلة”. وهذا التوظيف السياسيّ لهذه العبارة أو المقولة, راح يتجلى بشكل واضح في مفهوم الدولة التي رسم ملامح قائد هذه الدولة ميكافيلي في كتابه ” الأمير”, والتي هي أقرب إلى الدولة الشموليّة التي يقودها فرد بسلطات مطلقة. هذا ويعتبر كتاب “الأمير” من أهم الكتب التي اعتمدت مرجعا في مضمونها عند من امتلكتهم شهوة السلطة من الحكام المستبدين, إن كان في الأنظمة الملكيّة, أو الجمهورية لا فرق, فـ (الأمير) هو السيد المطلق, الذي يرسم سياسة الدولة وتطبيقاتها العمليّة في خطوطها الاستراتيجية.
إن الدولة والنظام السياسيّ في المفهوم الميكافيلي, يقومان على الفصل الكامل بين الحكام والمحكومين. والتركيز على أهميّة القهر وعلاقات القوة من قبل الحكام للمحكومين، وتعتبر سيطرة القلة أو النخبة المكوّنة من الأمير وحاشيته, هي التي يجب أن تسود. فـ“البشر (الشعب) عند ميكافيلي غير شاكرين للجميل، وهم متقلبون وكذابون ومخادعون، وعادة ما يهربون من المخاطر أو المسؤولية، ويطمعون في المكاسب، ولذلك فمن الضروري للحاكم أن يتعلم بأن لا يكون صالحا معهم”. لذا يقول “مكيافيلي”: على الحاكم أن يتظاهر بالرحمة والوفاء والنزاهة والتدين، وإن كانت فيه هذه الصفات حقيقة فذلك أحسن، ولكن عليه أن يكون متأهبا للتخلي عن كل هذه الصفات والعمل بضدها إذا اقتضى الأمر، والتحلي بسياسة الأيدي القذرة والقفازات النظيفة. (1).
إن هذا المبدأ الذي تبناه نيكولو مياكافيلي المفكر والفيلسوف والسياسيّ الإيطالي في القرن السادس عشر، جعله يعتقد أن صاحب الهدف, باستطاعته أن يستخدم الوسيلة التي يريدها أيا كانت وكيفما كانت دون قيود أو شروط. لذلك كان هو أول من أسس لقاعدة “الغاية تبرر الوسيلة”, حيث اعتبرت هذه القاعدة الانطلاقة الأولى التي ينطلق منها كل سياسيّأو حاكم يعتقد أو يؤمن بأن الدولة ملكاً له أو هي حق طبيعي له ولأسرته وراثياً. لذلك سمى ميكافيلي كتابه الشهير بـ (الأمير)، وبالتالي فقاعدة الغاية تبرر الوسيلة يضعها (الأمير) نصب عينه ويتبناها لتبرر له الاستبداد وممارسة الطغيان والفساد الأخلاقيّ إن اقتضى الأمر. ويرى ميكافيلي كما بينا في موقع سابق, ضرورة استخدام العنف و القوة من قبل القائد السياسي, مبررا ذلك بأن العنف يولد الخوف، والخوف أساسيّ من أجل السيطرة على الشعوب – حسب اعتقاده – ومن لم يفعل ذلك لا يعتبره قائدا سياسيّاً ناجحاً.(2).
بيد أن السؤال المشروع هنا, يطرح نفسه بالضرورة وهو: أيعقل أن يُترك المرء لاختيار أيّة وسيلة يريدها لفرض سيطرته دون أن يضع لها معايير تحفظ المجتمع من الدمار والقتل والتفكك والفساد.؟. فتصبح الحياة بناء على هذه السلوكيّة مليئة بالفوضى, وبعيدة كل البعد عن النظام الذي يحفظ الأمن والأمان للفرد والمجتمع. فكيف لحياة أن تقوم على قاعدة سياسيّة تبرر للحاكم سلب الأمن والأمان من الحياة اليوميّة لشعبه, ومنحه القدرة على سجن وتعذيب وتشريد وحتى قتل هذا الشعب إذا اقتضت الحاجة.؟!. ومن ثم تبرر للأخ قتل أخيه.؟!.
يعتقد ميكافيلي بالتفصيل في كتابه الشهير ” الأمير ” بأن تلك النظرة اللاأخلاقية للسلطة أمر طبيعيّ. فبالنسبة لـه ليس ثمة أساس أخلاقيّ يمكن أن نفرق به بين الممارسات الشرعيّة وغير الشرعيّة للقوة. ولكن السلطة والقوة يستويان بالضرورة عنده، وكل من يمتلك القوة له الحق أن يقود الدولة والمجتمع، ولكن الخير لوحده برأيه لا يضمن القوة, والشخص الفاضل ليس مميزا بفضل كونه خيّرًا.. وهكذا وفي تضاد مباشر مع النظريّة الأخلاقيّة للسلطة يقول ميكافيلي :إن الهم الوحيد للحاكم السياسيّ هو اكتساب القوة والحفاظ عليها ( على الرغم من أنه يتكلم عن ” الحفاظ على الدولة ” أكثر من حديثه عن القوة). بهذا المعنى ينتقد ميكافيلي بشدّة مفهوم السلطة, مجادلاً بأن مفهوم الحقوق الشرعيّة للحاكم لا تضيف شيئًا إلى الامتلاك الفعليّ للقوة. والناس مجبرون على الانصياع المجرد لسلطات الدولة العليا. والإكراه هو ما يجعل الناس تحترم السلطات العليا للدولة. لذلك هو يقول: (لو كنت أظن بأنني لست مجبراً أن أخضع لقانون ما، فما الذي سيحملني حقًا على الخضوع له؟, لا شك أنه الخوف من قوة الدولة أو الممارسة الفعليّة لهذه القوة. فقط القوة هي التي ستحسم أمر تنفيذ الرؤى المتعارضة حول ما يجب علي أن أفعله، سأختار العصيان فقط إذا كنت أمتلك القوة لمقاومة مطالب سلطات الدولة, أو سيكون لدي الاستعداد لتحمل عواقب تميز الدولة بالقوة القسريّة.).(3).ويتبدى معنى أن يكون الأمير كفؤًاً لدى ميكافيلي, هو أن يكون لدى الأمير قبل كل شيء ” تصرفًا مرنًا”. فالحاكم المناسب للمنصب كما بينا في موقع سابق، هو ذاك القادر على تغيير سلوكه من الخير للشر والعكس بالعكس كلما أملت الظروف والحظ. وبالتركيز على ادعاء ميكافيلي في ”الأمير” أن رئيس الدولة يجب أن يكون خيرا متى استطاع ذلك، ولكنه يجب أن يكون مستعدًا لارتكاب الشر متى توجب عليه ذلك أيضاً. (4).
على العموم, يبقى مفهوم سلطة ” الدولة” عند ميكافيلي إرثا شخصيًا، أو ملكاً, وهو أكثر تماشياً مع مفهوم القرون الوسطى التي عاشت النظام الملكيّ الوراثيّ كأساس للحكم. ففكرة النظام الدستوريّ المستقر الذى يعكس جوهر الفكر السياسيّ الحديث وكذلك ممارسة هذا الفكر, ليس لهما مكاناًفي مفهوم ميكافيلي عند حكومة الأمير, هذا رغم أنه يمدح النظام الجمهوريّ,معتبراً « أن الفضيلة الموجودة لدى الشعب في النظام الجمهوري تفوق ما يوجد منها عند الأمير»، مثلما يرى أن النظام الجمهوري يتصف بحساسيته السياسيّة وقابليته للتطور والتجدد، وهو الأكثر احتراماً للاتفاقيات والمعاهدات الدوليّة من النظام الملكيّ. ولكن (الأمير) مهما كانت طريقة وصوله إلى العرش، فإنه مضطر إذا أراد البقاء في السلطة، أن يراعي سلوكا ما محددا بدقة، أي أن يخضع لبعض القواعد العمليّة. وهذه القواعد العمليّة، هي استخدام العنف والقسوة وعدم الرأفة وعدم الوفاء بالتعهدات والكذب إذا اقتضى الأمر، ولذلك، رفض ميكافيلي آراء منظري عصره الذين قالوا إن الأمير مطالب بأن يكرس نفسه لحياة الفضيلة من أجل تحقيق الشرف والمجد والشهرة. (5).
لا شك أن ثمة علاقة بين الخير الأخلاقيّ وشرعيّة السلطة. حيث اعتقد العديد من المؤلفين الذين عاشوا عصره ( خصوصا الذين كتبوا كتب “مرايا الأمراء / الأداب السلطانية” أو كتب النصائح الملكية خلال العصور الوسطى وعصر النهضة ),(6).حيث تُبَيْنُ هذه الكتب أن استخدام القوةالسياسيّة مشروعًا فقط إذا كان الحاكم يتمتع بشخصيّة فاضلة تمامًا من الناحية الأخلاقيّة. وهكذا كان يتم نصح الحكام من قبلهم إذا ما أرادوا النجاح، لو كانوا يرغبون في حكم طويل وسلمي, ومن ثم تمرير السلطة إلى ذريتهم، فيجب عليهم الالتزام بالمعايير التقليديّة للصلاح الأخلاقيّ. أو بمعنى ما، كانوا يعتقدون أن الحكام الجيدون هم الذين يفعلون الخير، ويكتسبون الحق في الطاعة والاحترام بقدر ما يظهرون أنفسهم فضلاء وأخلاقيين.
تظل هناك مسألة على غاية من الأهميّة يشير إليها ميكافيلي بالنسبة لموقف الأمير إذا ما شعر بأن دولته تتعرض لخطر يهددها من الداخل أو من الخارج, فالأمير الذي يُفرض عليه أن يطلب معونة دولة صديقة للحفاظ على وجوده, عليه أن ينتبه بأن الدولة التي تقدم له المعونة لن تقدمها مجاناً له, حيث يقول : (إذا طلب حاكم من دولة قويّة مجاورة أو صديقة أن تتدخل لمساعدته فهذا أمر جيد، ولكن الأمر سيكون في غاية الخطورة “إذا ذهبت قوة هذه الدولة أو أصابها خلل في استقرارها الداخلي بفعل ظروف داخليّة او خارجية”، لأنها ستجره معها إلى الهاوية، وإذا انتصرت فإنه يصبح تحت رحمتها، وباختصار فإن سلاح الغير إما أن يسقط عن كتفيك، وإما أن يثقل كاهلك ويشل حركتك.).(7).
تظل في العموم نظرة ميكافيلي ودولته سيئة الصيت في تاريخنا المعاصر, فالحياة تطورت منذ القرن الخامس عشر حتى اليوم في جملة حياة الناس وقضاياهم ومنها قضيّة الدولة, فالأنظمة الشموليّة سقطت في المفاهيم الدستورية والدولة الحديثة عند الشعوب المتحضرة, فأصبح الشعب هو من يشكل الدولة ونظامها الدستوريّ وشكلها وآليّة عملها, أما الدول التي لم يزل يقودها فرد مستبد في سلطاته فهي تقف اليوم على عتبة النهاية, وقد أثبت التاريخ وأحداثه فشلها حتى ولو كان الحاكم مستبداً عادلاً, فالعدل والاستبداد لا يلتقيان, وإن حاول بعض الحكام العمل على السير على هذا الطريق فهم يعملون على ليّ عنق التاريخ.
يرى بعض النقاد العرب, أن نظريّة الدولة الميكافيليّة لم تعد تنطبق على الحالة العربيّة في تاريخنا المعاصر، فالعرب على ما يبدو وكما تشير ما سميت بثورات “الربيع العربيّ” أنهم يتنفسون السياسة من رئة واحدة، وإذا حصل تحرك سياسيّ في بلد تداعت له معظم البلدان الأخرى بالثورة والحراك، ما يستدعي مثال “أحجار الدومينو” في هذه الحالة.
كاتب وباحث من سوريّة.
d.owaid333@gmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش”
1- موقع الجزيرة نت – كتاب “الأمير” لمكيافيلي.. نظرية اليد القذرة والقفّاز النظيف – حسن العدم.
2- صلاح شعبان – موقع الجزيرة نت – 4/1/2017.
3- راجع موقع حكمة – نيكولاي ميكافيلي – الكاتب كاري نيدرمان- ترجمة محمد رضا.
4- راجع موقع حكمة – نيكولاي ميكافيلي – الكاتب كاري نيدرمان- ترجمة محمد رضا. المرجع السابق.
5- موقع عربي –وجهان مختلفان لمكيافيلي (2-2) – حسين عبد العزيز.
6- في العمل الفني «مرايا الأمراء», تمت دراسة عوالم الأمراء وتحديد واجبات الأمير. وهناك أعمال فنية أخرى قدمت مرايا التاريخ أو العقائد أو الأخلاق. راجع حول هذه المسألة بشكل مفصل – ويكيبيديا – أدب المرايا.
7- راجع موقع الجزيرة نت – كتاب “الأمير” لمكيافيلي.. نظرية اليد القذرة والقفّاز النظيف – حسن العدم.