الخيانة المرّة…!
أحمد فؤاد
في كتاباته وشروحه الكاشفة عن الحضارة المصرية القديمة، خرج الباحث المتميز في علم “المصريات” بقنبلة عن الملك القديم “رمسيس الثاني” أو رعمسيس باللغة الهيروغليفية القديمة، مؤداه أن هذا الملك، الأكثر بناءً للمعابد والتماثيل والمسلات الشاهقة خلال فترة حكمه التي تجاوزت جيلين، لم يكن أكثر من شخص مارس عملية سطو وتزييف للتاريخ بإضافة ألقابه الملكية وصوره إلى مبانٍ قائمة بالفعل، بالذات معبد “العرابة المدفونة”. إضافة إلى ذلك فإن النحت العبقري على جدران أبنيته كانت “المبالغة” في أفضل الأوصاف هي سيدة الموقف، فالملك يقهر ألوفًا من جيوش العدو وحده، ويخضع ملوك الحيثيين وشعوب البحر وبابل وغيرها لسلطانه، مع أنه صار من المعروف تاريخيًا أن معركته الكبرى “قادش” انتهت إلى تعادل، ولم يستطع أي من الطرفين إحراز نصر حاسم أو نهائي، لكنها العادة القديمة في مصر، إذا لم تستطع الحصول على نصر، فأعلن نفسك منتصرًا.
الحرب العالمية الثانية، وهي المدرسة الأولى لمعاينة الإستراتيجية وتكامل الجهود المعنوية والدعائية الشيطانية لتمرير صور، اعتبرت لذاتها إنجازات، استخدمت هذه الفكرة القديمة مرارًا، الهروب الجبان لقوات الحلفاء أمام زحف جيوش النازي المدمرة في الحملة الغربية على فرنسا وبلجيكا وهولندا، اعتبرته الصحافة الإنجليزية نصرًا مبينًا، وأصبحت كلمة الهروب والإجلاء مرادفة للإرادة، وبلغ من نجاحها أن ابتلع العالم طعم “روح دونكيرك” ولا تزال السينما العالمية تتحفنا بأفلام عسكرية عن هذا النصر الوهمي المزعوم، آخرها للمخرج كويستوف نولان في 2017، وهذا الفيلم الجديد تحديدًا رصدت له ميزانيات هائلة، وحقق نجاحًا ضخمًا، يضاف لسلسلة إنجازات هوليوود في سباقها الدائم مع الخداع والتزييف.
ليس جديدًا ولا مستغربًا ما خرج به كيان العدو علينا، كعرب، في ذكرى مرور 50 عامًا على حرب تشرين/ أكتوبر التحريرية، آخر صدام كبير بين الأنظمة العربية وجيوشها الرسمية، في سياق رسم حدث آخر مختلف عما جرى في خريف العام 1973، على الجبهتين المصرية والسورية، وهو نشر كتاب الموساد الجديد “ذات يوم.. عندما يكون الحديث مسموحًا”، عن قنبلة جديدة تمثلت في إقرار كامل بأن أحد أهم الشخصيات النافذة في القرار المصري كان جاسوسًا للكيان الصهيوني، وأمدهم بأخطر وأدق الوثائق والتفاصيل عن خطط وتحركات الجيشين، ما أدى بالمواجهة والحرب كلها إلى النتيجة البائسة التي انتهت عليها، رغم عشرات الألوف من الضحايا، والثمن الفادح الذي ترتب على الشعبين العربيين.
بداية، وقبل ابتلاع فخ القبول بالتقرير كاملًا، فإن الكيان في أزمة وجودية، فرضها عليه محور المقاومة فرضًا، اليوم بالذات يخرج رئيس أركان العدو ليشكو مما قال إنه مطار عسكري للمقاومة في جنوب لبنان تقيمه الجمهورية الإسلامية، وهو أعجز وأوهن من أن ينتهز الفرصة، كما كان يفعل سابقًا ويوجه ضربة لما يعتقده أخطر ما حدث على أمنه القومي، في الحقيقة لا ما تحدث عنه ولا خيمتا حزب الله أهداف سهلة للعدو، فهو يدرك أنها القاضية إن تحرك عسكريًا، ليس من جانب حزب الله وحده ولكن من طرف محور كامل صار يحاصره، ويضيق عليه خياراته يومًا بعد يوم.
الكيان يريد عملية تجميل واسعة للماضي، يقول فيها لقطعان مستوطنيه إنه كان ينتصر وسيظل ينتصر، وإن الأمة العربية من حوله مفككة وهشة، وإن بإمكانه تكرار معاركه بالكفاءة ذاتها، وتجديد ضرباته الهائلة، وقتما شاء وأنى شاء، مجرد عملية تسويق وعلاقات عامة ضخمة، توقف نزيف فقد الردع إلى الأبد أمام رجال الله في كل الساحات والجبهات.
إضافة إلى أن ما قاله الموساد معروف تقريبًا، ليست المرة الأولى التي يخرج اسم “أشرف مروان” إلى دائرة الشبهات، ورغم تصريح الرئيس المصري المخلوع “مبارك” عن وطنية مروان وخدماته الجليلة لوطنه، إلا أن الحق والحقيقة لا يمكن أن تصادر بتصريح من رئيس هو نفسه مشبوه بالتعامل لصالح العدو. بعبارة أخرى كان مبارك “كنزهم الإستراتيجي” وحكمه هنا مردود مرفوض، فالكل أفاد الكيان بأشكال متعددة، والكل كان يقف مبدئيًا في خنادقه، باحثًا عن مصالح وعمولات وغيرها.
الوثائق الصهيونية صادمة وبأقصى درجات العنف، تمامًا مثل فكرة أميركا “الصدمة والعنف”، فإذا كان المستوى السياسي الأول والأرفع في العالم العربي يضم من الخونة عشرات ومئات، وهذا حدث وقت معركة مصيرية، فكيف بالحال اليوم، وإذا تغاضينا عن المسألة برمتها، ووضعنا رؤوسنا في الرمال، فكيف نشرح لأجيال جديدة أن القبول بالكيان جريمة، وأن التطبيع معه عار، إذا كان الخونة –ممن باعوا وقبضوا الثمن- يجري تبرئتهم وتكريمهم، وهم الفئة الأكثر تبجيلًا في المجتمع؟
نظرة على الوثائق الصهيونية تقول إن الكيان كان له جاسوس –وربما أكثر من واحد- في أخطر المواقع المصرية وأكثرها حساسية وأمنًا، وأن هذا الجاسوس خلال اجتماعه مع مدير الموساد تسفي زامير في لندن، يوم الثاني من أكتوبر، قد أبلغه بموعد الحرب الحقيقي يوم السادس من أكتوبر الساعة السادسة مساءً، لكن لحسن الحظ لا أكثر، فإن الموعد تغير بعد مغادرة مروان للقاهرة، وأصبح في الثانية من بعد الظهر.
كشف شخصية مروان جاء خلال عمل لجنة التحقيق التي أعلنها الكيان بعد الحرب، لجنة أجرانات، في إطار البحث عن سبب الإخفاق العسكري الأولي في المواجهة، وعدم توقع موعد الحرب بالضبط، وفي محاولة كل من الموساد وجهاز المخابرات العسكرية أمان، فقد جرى تبادل الاتهامات عن المسؤول عن عدم الجدية في التعامل مع “الملاك”، الاسم الكودي لأشرف مروان، وخرج الاسم للعلن في بداية الألفية، قبل أن تتكفل أطراف عديدة بقتله في لندن، بعد أن أصبح عبئًا على الجميع، وعلاقاته المتشعبة تهدد آخرين، ربما لا زالوا في خدمة العدو.
أشرف مروان كان صهر الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، وسكرتير الرئيس السادات للمعلومات، وهو واحد من أخطر المناصب بالدولة، إذ تتجمع أمامه كل التقارير والحقائق من كل إدارة أو جهاز في الدولة، ويخلق أمامه الحقيقة المجردة، بلا تزويق ولا تجميل. هذا السيل من المعلومات كان يصل إلى الكيان مباشرة، كما وصل موعد الحرب، وأكثر من ذلك، تفاصيل عمليات القوات المصرية، وأهدافها من الضربة الجوية الافتتاحية للحرب. ورغم أن الكيان فوت فرصة الاستعداد وأضاع لحظة الاستباق، مع عدم تأكده الكامل، فقد عاد “الملاك” ليمدهم بأخطر معلومة تخص هذه الحرب، والتي وصفها الكتاب بـ “المعلومة الذهبية”، عن التقدم المصري المدرع يوم 14 أكتوبر إلى الممرات. وفي جلسة نقاش ساخنة بين قادة الجيش والمخابرات لمناقشة خطة عبور عكسي لقناة السويس لتطويق الجيش المصري، منحت هذه المعلومة الفرصة السانحة للكيان لصنع فخ، كان مدمرًا بالنسبة للجيش المصري الذي خسر أكثر من 400 دبابة في ساعات قتال، وتسبب النبأ الصاعق في سقوط قائد الجيش الثاني الميداني اللواء سعد مأمون بذبحة صدرية في مقر قيادته.
ما تلقيه هذه القنبلة الجديدة أو التحدي الأليم، هو أن كرامة هذا البلد مصر، وثمن الخروج من التيه الحالي لن يتحقق بغير لجان محاسبة رفيعة ونزيهة، أعضاؤها فوق مستوى الشبهات، ليعيدوا فك تلك القنبلة، فلا تجاوز دون ترسيخ الحقيقة في البلد، والشكوك تكاد تعصف فيها بكل ما يعد مقدسًا أو نبيلًا، عمل واحد يقتضيه الشرف الإنساني، وهو بالتأكيد ما لا يجري في إعلام المخابرات المؤمم، الذي يعد خطرًا على الوعي المصري والعربي بأكثر مما يمثل الكيان.
..
ما يواجهه الكيان حاليًا ليس أبدًا تلك الجيوش التي اخترقتها الخيانة، وأدمن قادتها الهزائم والانسحابات، أمام الكيان عدو يحاربهم بعقيدة تنتمي لـ “كربلاء” و”الحسين”، أول ما وقف أمام الإمام الحسين –ع- في ثورته هو إعلانه رفض أخلاقية الهزيمة التي كانت سائدة في ذلك الوقت، بالنسبة لأمة هُزمت، فإنها تفقد إرادتها وتفقد شعورها بوجودها كأمة، وشعورها بكرامتها، وبالتالي نشأت لديها هذه الأخلاقية.
اليوم أمام الكيان مئات الألوف من أصحاب هذه العقيدة، أصحاب ورفاق طائر أيلول المهاجر، السيد هادي نجل سماحة الأمين العام.
مثل الشهاب، قصير العمر، عميق الأثر والنور، فائق العلو، في إيمانه الذي حوله لفعل جهادي من أول رصاصة إلى آخر رصاصة، هذا النموذج وحده يكفي العرب شرفًا ويفيض، أن يكون من بينهم حزب أو أفراد بهذه الروحية وهذه الشجاعة، وأن يقفوا -ولو وحدهم- أمام عدو الأمة، وأن يشقوا طريق التحرير حفرًا بأظافرهم على جبين الزمن.
إنه مقدسنا الغائب، الصدق والثقة، حينما يجتمعان في لحظة تجلٍّ ولحظة اتصال، ولحظة رؤية، مواقف كثيرة للمقاومة صدقتنا فيها، وتجارب واختبارات أثبتت لنا من جديد، ومرة بعد مرة، أن الصدق هو طابعها الأول، وأن مدرسة الفداء الحسيني لا تزال قادرة على إنجاب مثل هذه القامات النورانية الشامخة.
“نحن لا نوفر أولادنا للمستقبل.. لا نربي أولادنا ليصبحوا زعماء أو قادة.. نرفع رؤوسنا عاليًا بأولادنا عندما يرتقون شهداء”. الأمين.
2023-09-13