الحكومة والشعب أصدقاء أم أعداء
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لعله سؤالٌ طبيعي ومتوقع، ومشروعٌ ومباحٌ، ولا غرابة فيه ولا استهجان، ولا يتهم سائله بالجنون أو الغباء، ولا بقلة الوعي والسخافة، إذ أن من حق كل مواطنٍ أن يطرحه بينه وبين نفسه، وعلى حكومته وشعبه، بصوتٍ عالٍ وبلا خوف، وبقوةٍ وبلا ضعفٍ، ليعرف حقيقة العلاقة التي تربطه بحكومة بلاده، والقانون الذي ينظم علاقته كمواطنٍ بالحاكم، وليكون له رأي في أداء حكومته، وموقف منها إن قصرت أو أخطأت، أو تجاوزت وظلمت، وليعترض عليها ويطالبها بالرحيل إن أساءت، وليتظاهر ضدها ويبدي معارضته لها، وليشيد بها إن أحسنت وأصابت، وقدمت وأجادت، وحكمت وعدلت، إذ أن من حقه أن يكون رقيباً على الحكومة التي انتخبها، ومحاسباً لها على عملها، وناصحاً لها، فهو الذي انتخبها واختارها، وقبل بها ووافق عليها، وتعاقد معها حراً، وتنازل لها طوعاً، شرط أن تؤدي له احتياجات المجتمع، وتحفظ له حقوقه كفردٍ فيه.
من حق المواطن على حكومته أن تسمع له وتصغي، وأن تشرح له وتفسر، وأن تصبر عليه وتحتمله، وأن تعينه وتساعده، وأن تؤيده في الاستمتاع بحقوقه والاستفادة منها، وألا تنصر ظالماً عليه، وألا تتأخر في رد الاعتداء عنه، وصد الهجوم عليه، وأن تمكنه في العيش ضمن حدوده، وأن تؤمنه في داره، وأن تكفل له حقوقه، وأن تدافع عنه عند ظلمه، وأن تداويه وتعالجه عند مرضه، وأن تكون عوناً له عند ضعفه، وأن تكرمه عند هرمه، وأن تكفل له قبراً عند موته، وألا يضام ولده بعد وفاته، وألا تتغول عليه وتصادر حقوقه حال غيابه.
ومن حقه عليها ألا تبادره بغضبها، وألا تستقبله بسخطها، وألا تعاقبه بحزمها، وألا تعنفه بقولها، وألا تريه حدة نابها، ولا مضاء سيفها، ولا طول ذراعها، ولا غلاظة سوطها، وألا ترهبه بسجونها، وتخيفه بجلاديها، وألا يكون سجنها للأحرار، وزنازينها للمفكرين والمبدعين الكبار، أو الثائرين الأحرار، وألا تجعله تحت العيون، مراقباً ومتابعاً، ومعاقباً ومهاناً، ما دام ملتزماً القوانين، ومحافظاً على الأعراف، ومراعياً للتقاليد، لا يسرق ولا ينهب، ولا يزور ولا يهرب، ولا يبغي ولا يعتدي، ولا يخالف ولا يخطئ، ولا يتجاوز القانون ولا يسيئ استخدام السلطة، ولا يستغل مقدرات الدولة وامكانيات الحكومة، ولا يستخدم العام لخاصته، ولا يغتصب العام والخاص لنفسه، ولا يحرم المستحقين حقوقهم، ولا يمنح إلا بحق، ولا يحرم إلا بموجب حكمٍ عدلٍ.
ومن حقه عليها أن توفر له سبل العيش الكريم، ووسائل الحياة المريحة، فلا يكون دافعاً للضرائب، ومؤدياً للحقوق، ومثالاً للمواطن الشريف، بينما تتنكر له الدولة، وتغفله الحكومة، فلا توفر له البدائل المريحة، والحاجات الضرورية، وأساسيات الحياة الأولية، فلا مدارس مناسبة، ولا تعليم مدروس، ولا مصحاتٍ ولا مستشفياتٍ، ولا علاج مكفول ولا مريض مأمون، ولا طرق مرصوفة، ولا شوارع مضاءة، ولا نظافة عامة، ولا خدماتٍ بلدية، ولا خطوط هاتفية، أو شبكات اتصالٍ خلوية، أو وسائل اتصالٍ حديثةٍ، ولا حدائق ولا منتزهات عامة، ولا رياض أطفالٍ ولا حدائق حيوانات، ولا بساتين خضراء ولا منتجعاتٍ للراحة والاستجمام، ولا فرص للعمل، ولا مساكن للشباب، ولا معوناتٍ للمحتاجين، ولا رقابة على الأسعار، ولا حماية للمستهلكين، ولا محاربة للجشعين والمحتكرين، ولا ضبط للأمن ولا سلامة للمواطنين، ولا حماية للآمنين.
السؤال مشروعٌ ومباحٌ، فلا حرمة فيه ولا نهي عنه، ولا عقاب لسائله، ولا ترهيب أو تهديد لقائله، ذلك فقط إذا كان المقصود بالسؤال عن علاقة الحكومات المتحضرة بمواطنيها، وعن الرابط القيمي والقانوني بينهما، ذلك أن الحكومات الأوروبية وغيرها، الذين يوصفون بالحضارة والرقي، والوعي والفهم، من الحكومات المدنية المنتخبة ديمقراطياً، التي تؤمن بتعدد السلطات وتحترم الفصل بينها، وتعتقد بالمشاركة السياسية، وتقبل بمبدأ تداول السلطات، وتحكم بالقانون، وتلتزم الدستور، وتحفظ حقوق الإنسان، وتراعي حرماته، وتصون مقدساته، وتلتزم عند حدوده الشخصية، ومعتقداته الدينية، وأفكاره الخاصة، فهي لهذا تتقبل هذا السؤال وتعتبره منطقياً وطبيعياً، ولا تجرم السائل، ولا تضعه في دائرة الاتهام، ولا تسلط عليه زبانيتها، ولا تطلق عليه أجهزتها الأمنية لتؤدبه، فهي تعلم أنها في هذا الموقع لأن الشعب اختارها، وهي باقية فيه لأنه راضٍ عن أدائها، وموافقٌ على سياستها.
لكن هذا السؤال عند الأنظمة العربية وبين شعوبها محرمٌ وممنوع، وفيه سوء أدبٍ وقلة ذوق، وتنقص صاحبه اللياقة واللباقة، ويعوزه التقدير والاحترام، ويلزمه التأديب والتقريع، والعقاب والمحاسبة، فمن يتجرأ على البوح به أو التفكير فيه فإنه يتهم ويجرم، ويغيب فلا يعرف مكانه، ويسجن ولا يطلق سراحه، ويعذب ولا تتوقف إهانته، ويحاسب أهله وتضهد عائلته، وقد يهدم بيته ويطرد من عمله، وقد يحرم أولاده وتطلق زوجته، وكل جريمته أنه سأل عن علاقته بحكومة بلاده، وعلاقتها به، فاستحق بهذا السؤال غير البريئ، الذي يستبطن الثورة، ويخطط للفتنة أن ينال جزاءه، وأن يحاسب بلا رحمة، ويعاقب بلا شفقة، وقد يتهم بالعمالة والتخريب، وأنه مرتبطٌ بالخارج، وينفذ برامج أجنبية معادية.
ألا تدرك الحكومات والسلطات العربية أنه لم يعد بإمكانها تستمر كما كانت، وأن تعيد سياسات البطش والارهاب التي اعتمدتها ضد شعوبها سنين طويلة، فقهرتهم وأذلتهم واستعبدتهم، وحرمتهم واستبعدتهم، وأنه لم يعد من السهل تكميم أفواه المواطنين، وصم آذانهم وتعطيل عقولهم، وسوقهم إلى المسالخ كالنعاج، وإلى الحقول والمعامل والمصانع كالعبيد، وأن الزمن الذي كان فيه الحاكم يتفرد في التصرف وحده، ويظن أن أحداً لا يعرف عنه شئ، قد ولى ولم يعد الزمان نفسه، فقد تغيرت المعطيات وتبدلت الأدوات، وبات الشعب يرى ويتكلم، ويرتفع صوته ويغضب، ويثور ويزأر وينتفض وينتقم.
على الحكومات العربية أن تتعاضد مع شعوبها، وتتصالح معهم، وتتعاون وإياهم، وأن تؤمن بإنسانيتهم، وتقر بحقوقهم، وتشعر بحاجاتهم، وتُؤَمِنُ مطالبهم، وتستجيب إلى رغباتهم، وتقوم على خدمتهم، وتتفانى في مساعدتهم، وتكون فعلاً خادمةً لهم، ومسيرةً لشؤونهم، وساهرةً على راحتهم، قبل أن تكون عصا زاجرة، وعقوبةً رادعة، وقبل أن تفكر وتخطط كيف تحكم شعوبها وتقهرهم، وكيف تؤدبهم وتركعهم، وكيف تخضعهم وتذلهم، وتخرس أصواتهم وتطأطئ رؤوسهم، وتحنى قاماتهم وهاماتهم، وتكسر ظهورهم وارادتهم، وهي لا تعلم أن العظيم هو من أحبه الشعب ورفعه، وصانه وحفظه، وأن العبد الذليل من أهان شعبه، وأساء إلى أهله.
بيروت في 10/4/2015