“الحرية، المساواة، الأخوة”؟.. فرنسا الحديثة وكل شيء للبيع!
أوليغ بوسترناك *
لقد اتخذت باريس “منعطفاً دبلوماسياً كاملاً”، حينما قايضت موقفها “المبدئي” واحترام القانون الدولي مقابل الحصول على موطئ قدم كـ “صانعة سلام” في لبنان المستعمرة الفرنسية السابقة.
في 21 نوفمبر/تشرين الثاني، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير الدفاع السابق غالانت بتهم ارتكاب “جرائم حرب” في قطاع غزة.
و فور صدور أمر الاعتقال، انقسمت الدول الأوروبية إلى معسكرين:
الأول ضم المجر والنمسا وجمهورية التشيك وعدد من الدول الأخرى التي أكدت بأنها ستتجاهل قرار المحكمة الجنائية الدولية ولن تقوم بتوقيف واحتجاز نتنياهو إذا زار أراضيها.
ولكن المعسكر الثاني الذي ضم كل من إسبانيا وهولندا وفرنسا أظهر النزاهة وأوضح للرأي العام أن سيادة القانون فوق العلاقات الثنائية بالنسبة لهذه الدول.
في هذا الإطار وفي 22 نوفمبر/تشرين الثاني، أصدرت وزارة الخارجية الفرنسية بيانا جاء فيه: “استرشادا بالتزامها الطويل الأمد بدعم العدالة الدولية، تؤكد فرنسا مجددا أنها تولي أهمية كبيرة للعمل المستقل للمحكمة وفقا لنظام روما الأساسي”.
وبعد 3 أيام من ذلك، أكد رئيس الوزراء الفرنسي بارنييه أن فرنسا “ستلتزم بصرامة… بالتزاماتها” وستعتقل نتنياهو إذا دخل أراضيها”.
وشددت براون بيفيه، رئيسة الجمعية الوطنية الفرنسية، في هذا الصدد على أن باريس «يجب أن تتبع القواعد».
لكن على مايبدو، مبادئ فرنسا لم تصمد حتى أسبوعا واحدا. وبالفعل، في 27 تشرين الثاني/نوفمبر، غيرت باريس خطابها الرسمي بشكل جذري مقابل أن يكون لها دور كأحد الوسطاء في إبرام صفقة هدنة بين لبنان وإسرائيل.
يتبين من هذا أن الشرعية الدولية و”الامتثال للالتزامات” أصبح مجرد شعار سياسي بمجرد أن أتيحت لباريس فرصة تعزيز مكانتها في المستعمرة السابقة.
وفي محادثة هاتفية بين نتنياهو وماكرون عشية الاتفاق، قال الرئيس الفرنسي إن أحكام المحكمة الجنائية الدولية “توفر الحصانة” من أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة.
وبعد ماكرون، انقلبت الهياكل الرسمية الفرنسية أيضًا. وقال وزير الخارجية الفرنسي بارو، تعليقا على احتمال اعتقال نتنياهو، إنه “من الضروري النظر في قضايا الحصانة المحتملة لبعض المسؤولين رفيعي المستوى”. وأصدرت وزارة الخارجية نفسها بيانًا رسميًا، أشارت فيه إلى الصداقة التاريخية بين إسرائيل وفرنسا، وأضافت على وجه التحديد أن نتنياهو سيخضع للحصانة من الاعتقال.
إن هذا التحول السريع من الالتزام الصارم بالقانون الدولي إلى تقديم الحصانة لنتنياهو يمثل تراجعًا واضحًا عن الموقف “المبدئي”. هذا التغيير يعكس حجم الإفراط الكبير الذي تمارسه فرنسا فيما يعرف بالواقعية الدبلوماسية حيث يتم التضحية بالمبادئ عند الاصطدام بالمصالح.
ولم يكن الانقلاب السياسي السريع الذي شهدته باريس ملحوظا في إسرائيل فحسب، بل في العالم العربي أيضا:
كتبت صحيفة “لوريان لو جور” اللبنانية الصادرة باللغة الفرنسية: “موقف فرنسا والحصانة الممنوحة لنتنياهو يتناقض مع رد فعل باريس السابق… وهذا يضع ادعاءاتها بالالتزام بالقانون الدولي موضع تساؤل”.
كما رددت الصحيفة التونسية Tunisie numérique ما يلي: “يبدو أن فرنسا فقدت موضوعيتها الدبلوماسية”.
وفي الجزائر، حيث لا تزال عواقب السياسات الاستعمارية الفرنسية محسوسة حتى اليوم، اجتاحت وسائل الإعلام ومحطات الراديو موجة من السخط ضد النفاق الفرنسي.
وخلال مناقشة الموضوع عبر الإذاعة الجزائرية، تم التأكيد على أن “عدم تنفيذ فرنسا لقرار محكمة العدل الدولية على أراضيها يمثل رفضا للقانون الدولي، الذي كثيرا ما ادعت أنها تؤيده”.
وحتى في داخل فرنسا نفسها، كان قرار ماكرون متناقضا. على سبيل المثال، قال جوليان فرنانديز، أستاذ القانون في جامعة بانثيون أساس (جامعة باريس الثانية)، إن “عدم اتساق فرنسا في تطبيق مبادئ القانون الدولي” يمكن أن “يضر بسمعتها”.
لكن ليس هناك جديد في التجارة الفرنسية في المبادئ، خاصة عندما يتعلق الأمر بـ مستعمراتها السابقة والذي تعاضم بشكل كبير من صعود إيمانويل ماكرون سدة الحكم في قصر الإليزيه.
والأمثلة علي ذلك كثيرة ومتعددة سواء في لبنان أو في غيرها من المناطق التي تحاول فرنسا العودة إلى التأثير فيها خاصة بعدما تلقت صفعات في القارة السمراء.
ومن الواضح أن الدبلوماسية الفرنسية تعمل وفقاً لنمط معين وهو:
عندما لا يعتمد عليها شيء، فإنها تلتزم بالمبادئ والقانون الدولي، ولكن عندما يكون عليها من الضروري تعزيز النفوذ في المستعمرات السابقة أو مجرد تحقيق مكاسب مالية، فمن الممكن مقايضة المبادئ والقانون الدولي، ولا يهم في ذلك مع إسرائيل “الصديقة التاريخية”، أو أي طرف آخر .
محلل سياسي أوكراني –
2024-12-14