الحرب النفسية…!

رنا علوان
غالبًا ما يُنظر الى الحرب النفسية على أنها مصطلح حديث ، الا انها قديمة الأزل ، إذ استخدمها “كورش” الكبير ضد بابل، و”زرك سيس” ضد الإغريق ، وفيليب الثاني المقدوني ضد أثينا ، وخالد بن الوليد ضد الروم ، ويوسف بن تاشفين ضد القشتاليين ، وعبد المالك السعدي ضد البرتغال
كما استخدم المغول الحرب النفسية في العصور الوسطى ، وكان لها أثر كبير في توسع رقعة دولتهم ، فقد لجأ “جنكيز خان” إلى إرسال الجواسيس في بداية القرن 11 الميلادي ، لبث الرعب في نفوس الأعداء ، من خلال التهويل ، وإطلاق الشائعات ، ومحاولة إضعاف معنويات المقاتلين ، عبر نشر الأخبار عن أعداد الجيش المغولي الكبيرة وأفعالهم الوحشية ،
وكان يخدع جيش عدوه فيجعله يعتقد أن جيش المغول أكبر من الواقع عن طريق مجموعة مدربة من الفرسان ، كانوا يتحركون بسرعة كبيرة من مكان إلى آخر
وينسب المصطلح تقليديًا إلى أحد “الجنرالات” القوميين اسمه إميليو مولا، واستعملها خلال الحرب الأهلية أثناء تحرك 4 من كتائبه (طوابير) إلى مدريد ، فأشار إلى وجود أنصاره المتشددين داخل العاصمة على أنهم “طابور خامس”، يعملون بالخفاء في مدريد بهدف تقويض الحكومة الموالية من الداخل
إذن ، الحرب النفسية (أو الحرب السيكولوجية ، أو علميات دعم المعلومات العسكرية ، أو الحرب السياسيةأو الحرب الباردة) مصطلح «يشير إلى أي فعل يمارَس وفق أساليب نفسية لاستثارة رد فعل نفسي مخطَّط في الآخرين». تُستعمَل فيها أساليب عديدة، وتَستهدف التأثير فيما لِلأهداف من نُظم قِيَمية أو عقائدية أو مشاعر أو دوافع أو منطق ، تُستعمل لانتزاع اعترافات أو تعزيز مواقف تناسب أغراض مَن يشنّها ، وأحيانًا ما يُجمع بينها وبين العمليات السوداء أو الرايات المزيفة
وتُستعمل أيضًا في إحباط الأعداء ، بتكتيكات تستهدف حطّ معنويات قواتهم
وقد نوه القادة والزعماء كذلك بأهمية الحرب النفسية وأثرها في إدارة الصراع ومن نتائجه ، فمن ذلك قول القائد الألماني روميل : ” إن القائد الناجح هو الذي يسيطر على عقول أعدائه قبل إبدائهم ”
جاءت عبارة “الحرب النفسية” لأول مرة في كتاب ألماني للكولونيل “بلاو”، الذي كان رئيسًا للمعمل النفسي بوزارة الدفاع ، وقد أصدره في 1930 بعنوان “ما معنى كل الدعاية؟”، ووضع فيه أسس الحرب النفسية
شاعت فيما بعد عبارة “الحرب النفسية” خلال الحرب العالمية الثانية من قبل الحلفاء ودول المحور على السواء ،
ثم عرّفت في معجم المصطلحات الحربية للجيش نفسه بأنها “استخدام مخطط من جانب الدولة في وقت الحرب أو في وقت الطوارئ لإجراءات دعائية ، بقصد التأثير في آراء جماعات أجنبية عدائية أو محايدة أو صديقة وعواطفها ومواقفها وسلوكها ، بطريقة تعين على تحقيق سياسة الدولة وأهدافها”
وقد عدل هذا التعريف في طبعة المعجم اللاحقة بحذف كلمتي “في وقت الحرب أو في وقت الطوارئ” ، لأن مجال الحرب النفسية لا يقتصر على هذه الأوقات فقط
إن الحرب النفسية هي اكثر خطورة من الحرب العسكرية لأنها تستخدم وسائل متعددة ، إذ توجه تأثيرها على أعصاب الناس ومعنوياتهم ووجدانهم ، وفوق ذلك كله فإنها تكون في الغالب مقنعة بحيث لا ينتبه الناس إلى أهدافها ، ومن ثم لايحطاطون لها ، لأنهاتتسلل إلى نفوس الأفراد دون أن يشعرون
كذلك فإن جبهتها اكثر شمولاً واتساعًا من الحرب العسكرية لأنها تهاجم المدنيين والعسكريين على حد سواء
كما ان الاشاعات هي اكثر دوامًا او ديمومةً ، ومن هذا المنطلق يمكن القول أن الحرب النفسية ، وكما يراها خبراء علم النفس العسكري هي استخدام مخطط من جانب دولة أو مجموعة من الدول للدعاية وغيرها من الإجراءات الإعلامية الموجهة إلى جماعات عدائية أو محايدة أو صديقة لأنها تستخدم في أوقات السلم والحرب معًا ، بل أيضًا تصوب هجماتها خارج “الدولة الخصم نفسها” حين توجه ذلك نحو الرأي العام العالمي
وعلى الرغم من كونها ليست مثل الحرب المعروفة، التي تستخدم فيها الأسلحة والذخائر، فإنها لا تقل ضراوةً وفتكًا عن الحروب العسكرية ، حيث ظهرت أهميتها نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن العشرين ، وتحديدًا مع تفكك الاتحاد السوفياتي ، وهذا التصور للحرب النفسية واعتمادها في تحليل وإدارة الصراع أعطاها أهمية بالغة ، ودفع العالم الغربي وأميركا في النظام الدولي الجديد إلى استخدامها ضمن أفضل الأسلحة المؤثرة التي هيأت العالم للقبول بإنفراد أميركا برئاسة وقيادة العالم بعد انهيار السوفيات
في الحرب الثانية برزت هذه الحرب المُساعدة بشكل كبير حيث استطاعت دول المحور (إيطاليا، ألمانيا، اليابان، إسبانيا) أن تنال رضا شعوبها عبر حرب عدوانية ، ثم تفتيت خصومها للحصول على النصر ، فكان عليها أن تدخل الخوف والرعب في نفوس أعدائها المباشرين ، وقد استخدمت الدعاية السوداء بشكل واسع النطاق قبل العمليات الحربية ، ولعل اكثرهم استفادة ألمانيا ، إذ وصلت النازية إلى السلطة عن طريق استمالة الرجل العادي ، عندما طبّق “هتلر” هذا التكتيك في الميدان الدولي ، بادئا بالتأثير في الجماهير في كل مكان، فأقام عروضا تدل على القوة ثم انتهى إلى الوحشية الباردة
وبالرغم من انتهاء الحرب العالمية الثانية فلازالت الحرب النفسية مستمرة ممثلة في الحرب الباردة ، وهي حرب أفكار وعقائد تحاول فيها الولايات المتحدة استمالة اكبر عدد من الدول إلى جانبها ، ملوحة بالقوة تارة وبميلها إلى السلام والتعاون من اجل دفع الظلم تارة أخرى
وفي الحرب النفسية يحاول الخصم الاحتفاظ وراء الدين والصحافة او الإذاعة او الأحداث او الأصدقاء او الفكاهات ، وما إلى ذلك [ومعنى ذلك أن الحرب النفسية ليست مباشرة وليست وجهًا لوجه ]
وأدواتها عدة تتمثل ب([الشائعات] ، التي تمس العديد من الأحداث ، كالحرب والكوارث وارتفاع الأسعار أو علاقات سياسية أو اقتصادية، وقد تمس أشخاصًا أو جماعات وغيرها، وتستهدف معنويات الشعب ، أيضًا [الدعاية] التي اصبحت في عصرنا الحالي تحتل مساحات واسعة عبر شبكات التواصل الاجتماعي ، التي اختزلت الوقت وقربت أنحاء المعمورة حتى أصبح العالم قرية ، إذ يؤثر ما يحدث في أقصى الشرق في واقع وحياة من في أقصى الغرب ، والعكس صحيح
وصولاً الى [غسيل الأدمغة او الإقناع القسري] حيث يتم تطبيق المصطلح عمومًا على أي تقنية مصممة للتلاعب بالفكر أو العمل البشري ضد رغبة أو إرادة أو معرفة الفرد، من خلال التحكم في البيئة المادية والاجتماعية ، ولعل هذه الأداة من طبيعة غسيل الدماغ كانت أكثر بروزًا بعد انتصار الشيوعيين الصينيين في 1949 وبعد الحربين الكورية والفيتنامية (كما حدث في السجون السياسية الشيوعية)
ختامًا ، يقول المخطط العسكري الصيني [ صن تزو ]
إن اعظم درجات المهارة هي تحطيم مقاومة العدو دون قتال ، فالهزيمة حالة نفسية مداها الاقتناع بعدم جدوى المقاومة أي الاستسلام ، والتوقف عن الحرب
( والحرب وسيلة من وسائل إقناع الخصم بالهزيمة فإذا اقتنع بالهزيمة وبعدم جدوى المقاومة تحقق الهدف من الحرب )
وإذا أمكن اقناع الخصم بالهزيمة بوسيلة غير الحرب المسلحة لم يعد هناك داع لها
ومن هنا نجد ان العدو في الحرب يسعى إلى تحقيق هذا الهدف مستخدمًا وسائل شتى منها الدبلوماسية والدهاء والعبقرية في الدعاية والإعلام إلى جانب قواته الجوية والبرية والبحرية ، وكذلك مخترعاته واكتشافاته العلمية والتكنولوجية ، بل انه يستخدم أيضًا إمكانياته الاقتصادية ، وفوق ذلك يستخدم اسلحته البيلوجية المتمثلة بنشر الأوبئة المُصنعة ، والقصد من كل هذه الوسائل هدف واحد هو إقناع الخصم بالهزيمة
كما تزرع بذور الفرقة والانقسام وتضع العقبات أمام التقدم والتطور ، وتعمل في الظلام وتطعن في الخلف ، وتلجأ إلى تشويش الأفكار ، وخلق الإرهاب والاشاعات لتشويه القيم والمبادئ ، واتباع وسائل الترغيب والتهديد
2023-12-10