الحرب الإقتصادية بين التنين و الاخطبوط قد بلغت أوّجها!
رنا علوان
تمتلك الصين ترسانة مُهمّة في حربها مع اميركا فالصين هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم ، مما يعني أنها قادرة على استيعاب آثار الرسوم الجمركية بشكل أفضل من الدول الأخرى
تُمثل الصين 61% من إنتاج المعادن الأرضية النادرة المستخرجة عالميًا ، لكن سيطرتها على مرحلة المُعالجة تُمثل 92% من الإنتاج العالمي ، وفقًا لوكالة الطاقة الدولية
وتتمتع الصين بسيطرة شبه احتكارية على المعالجة العالمية للمعادن الأرضية النادرة ، ففي 2023 ، أنتجت الصين 61% من العناصر الأرضية النادرة المغناطيسية الخام في العالم ، وهي أساسية في الصناعات عالية التقنية مثل الإلكترونيات والمركبات الكهربائية والدفاع … وتتجلى هيمنتها بشكل أوضح في تكرير هذه المواد ، حيث تُشكل 92% من الإمدادات العالمية المُكررة
وتُمكّن المغناطيسات المصنوعة من المعادن الأرضية النادرة من تصنيع محركات ومولدات أصغر حجمًا وأكثر كفاءة [ تُستخدم في الهواتف الذكية ، ومحركات السيارات والطائرات ، وأجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي كما أنها مكونات أساسية في مجموعة من الأسلحة باهظة الثمن ، من طائرات الشبح المقاتلة إف-35 إلى الغواصات الهجومية التي تعمل بالطاقة النووية ]
ومؤخرًا ، قالت وزارة الخارجية الصينية ، إنه لا يجوز لأي دولة أن تتجاوز القوانين الدولية وتسمح بإستكشاف موارد في قاع البحار ، وذلك بعد أنباء عن خطط أميركية لتخزين معادن موجودة في أعماق البحار لمواجهة هيمنة الصين على هذا القطاع
كما نقلت صحيفة “فاينانشال تايمز” ان إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تعمل على صياغة أمر تنفيذي يسمح للولايات المتحدة بتخزين المعادن الموجودة في قاع المحيط الهادي لمواجهة هيمنة الصين وسلاسل توريد المعادن والعناصر الأرضية النادرة
وأفادت الصحيفة في تقرير بأن التخزين “سيجعل كميات كبيرة جاهزة ومتاحة على الأراضي الأميركية للاستخدام في المستقبل” في حالة نشوب صراع مع الصين ربما يقيد استيراد المعادن والعناصر الأرضية النادرة ، وفقًا لـ “رويترز”
وقالت وزارة الخارجية الصينية بعد نشر التقرير إن قاع البحر وموارده “إرث مشترك للبشرية” بموجب القانون الدولي
وأضافت الوزارة في بيان “استكشاف الموارد المعدنية في المنطقة الدولية لقاع البحار واستغلالها يجب أن يتم وفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار وفي إطار السلطة الدولية على قاع البحار”
في السياق عينه تُجابه الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة رسومًا جمركية تصل إلى 245 في المئة ، في المقابل ردّت بكين بفرض رسوم جمركية بنسبة 125 في المئة على الواردات الأمريكية ويستعد المستهلكون والشركات والأسواق لمزيد من حالة عدم اليقين مع تزايد المخاوف من [ ركود عالمي ] فلو تحقق هذا الركود سنجد ان التاريخ [ يُعيد نفسه ]
ففي عشرينيات القرن الماضي ، توّسع اقتصاد الولايات المتحدة بسرعة كبيرة ، وتضاعف إجمالي الثروة الوطنية أكثر من مرة خلال الفترة بين 1920 و1929، الفترة التي عُرفت بـ «العشرينيات الهادرة»
وكانت سوق الأسهم ، المُتمركزة ببورصة نيويورك في وول ستريت ، مسرحًا للمضاربات المتهورة ، حيث ضخ الجميع ، من أصحاب الملايين إلى الطُهاة والخدم ، مدّخراتهم في سوق الأسهم
ونتيجةٍ لذلك ، شهد سوق الأوراق المالية توسعًا سريعًا وصل إلى ذروته في أغسطس 1929
وبحلول ذلك الوقت ، انخفض الإنتاج وارتفعت نسبة البطالة بالفعل ، ما جعل أسعار الأسهم أعلى بكثير من قيمتها الحقيقية
وفي صيف 1929 ، دخل الاقتصاد الأميركي في ركود بسيط إذ انخفض الإنفاق الاستهلاكي وبدأت تتراكم السلع غير المبيعة ، والذي أدى بدوره إلى تباطؤ الإنتاج في المصانع
ومع ذلك ، استمرت أسعار الأسهم في الارتفاع ، لكن بحلول خريف ذلك العام وصلت إلى مستويات لا يمكن تبريرها بأي أرباح مستقبلية متوقعة
أما في 24 أكتوبر 1929 ، بدأ المستثمرون القلقون ببيع الأسهم المُبالَغ في سعرها بشكل جماعي ، مما أدى إلى انهيار البورصة في النهاية كما كان يخشى البعض
[ففي ذلك اليوم ، سجلت البورصة عمليات بيع قياسية بلغت 12.9 مليون سهم ، فيما عُرف بـ «الخميس الأسود»]
تلاه بعد خمسة أيام فقط ، أي في 29 أكتوبر ما سمي بـ«الثلاثاء الأسود» ، حيث سجلت البورصة بيع أكثر من 16 مليون سهم بعد موجة ذُعر أخرى اجتاحت وول ستريت … انتهى الأمر بملايين الأسهم وقد أصبحت بلا قيمة ، والمستثمرون الذين اشتروا الأسهم «بالهامش» (بأموال مقترضة) أفلسوا تمامًا
ومع تلاشي ثقة المستهلك في أعقاب انهيار البورصة ، أدّى تراجع الإنفاق والاستثمار إلى تباطؤ الإنتاج في المصانع وغيرها من القطاعات وبدأت الشركات والمصانع في تسريح عمّالها… حتى من كانوا محظوظين بالحفاظ على وظائفهم ، تهاوت أجورهم بشكل كبير وانخفضت القدرة الشرائية للمجتمع بشكل عام
وبرغم تأكيدات الرئيس هربرت هوفر وغيره من القادة آنذاك (أن الأزمة سوف تتخذ مسارها) ، استمر تدهور الأمور إلى الأسوأ خلال السنوات الثلاث التالية… ومع حلول عام 1931، كان الملايين أصبحوا في قيد العاطلين عن العمل
في الوقت نفسه ، انخفض الإنتاج الصناعي للولايات المتحدة إلى النصف ، وانتشرت في جميع قرى ومدن الولايات المتحدة طوابير الخبز ، ومطابخ الحساء ، وارتفعت أعداد المشردين ، إلى أن أصبحت تلك المظاهر شائعة واعتيادية خلال تلك الفترة
كما حدث تهافت آخر من المستثمرين بالولايات المتحدة على سحب ودائعهم النقدية في ربيع وخريف 1931، وفي خريف 1932 وهو ما دفع آلاف البنوك إلى الانهيار وأغلقت أبوابها في بدايات عام 1932
كان هوفر الجمهوري الذي شغل سابقًا منصب وزير التجارة الأميركي ، يعتقد أن الحكومة ينبغي ألا تتدخل بشكل مباشر في الاقتصاد ، وأنها غير مسؤولة عن خلق فرص عمل أو تقديم الإغاثة الاقتصادية للمواطنين
إلا أنه في عام 1932 ، ومع غرق البلاد في غياهب الكساد الكبير والوصول بأكثر من 15 مليون أميركي (أي أكثر من 20% من سكان الولايات المتحدة في ذلك الوقت) عاطلين عن العمل ، حقق الديمقراطي فرانكلين روزفلت نجاحًا ساحقًا في الانتخابات الرئاسية
وبحلول يوم تنصيبه (4 مارس 1933)، كانت كل ولاية أميركية أصدرت أوامرها لكل البنوك المُتبقية بالإغلاق في نهاية الموجة الرابعة من الذُعر المصرفي ، ولم يعد لدى الخزانة الأميركية ما يكفي من السيولة النقدية لدفع رواتب العاملين الحكوميين
ومع ذلك ، أبدى فرانكلين روزفلت هدوءًا وتفاؤلاً كبيرَين ، وقال عبارته الشهيرة «الشيء الوحيد الذي ينبغي أن نخافه هو الخوف نفسه»
هذا التفاؤل هو شبيه بتفاؤل ترامب اليوم ( الذي يسعى الى تفكيك النظام التجاري العالمي) وتوجيهه انتقادات علنية للاحتياطي الفيدرالي ، لذلك بدأ المستثمرون على نطاق واسع في التشكيك بمكانة الدولار وسندات الخزانة كملاذ آمن
وقد أذكت موجة البيع التي طالت سندات الخزانة الأمريكية في أبريل ، عقب إعلان ترامب فرض تعريفات جمركية واسعة النطاق على الشركاء التجاريين لأمريكا ، مخاوف واسعة في واشنطن وأماكن أخرى من احتمال لجوء الصين إلى «هجوم انتقامي» عبر بيع حيازاتها من سندات الخزانة حيث تُعد الصين ثاني أكبر مالك أجنبي لسندات الخزانة الأميركية بعد اليابان ، مما قد يؤدي ذلك إلى تقلبات حادة في أصل يحظى بإقبال كبير من البنوك المركزية ومديري الأصول وصناديق التقاعد حول العالم نظرًا لاستقرارها
ويجادل البعض بأن هذا يمنح بكين نفوذًا [ فقد دأبت وسائل الإعلام الصينية على الترويج لفكرة بيع أو حجب مشتريات السندات الأمريكية كـ”سلاحٍ فعال” ]
وأكدت حكومة الرئيس الصيني ، شي جين بينغ مرارًا وتكرارًا انفتاحها على الحوار ، لكنها حذرت من أنها ستقاتل حتى النهاية إذا لزم الأمر
كما أعلنت بكين مؤخرًا عن خطط لإنفاق أكثر من تريليون دولار أمريكي على مدى العقد المقبل لدعم الابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي
وعلى الرغم من محاولة الشركات الأمريكية نقل سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين ، إلا أنها واجهت صعوبة في إيجاد البنية التحتية والعمالة الماهرة بنفس القدر في أماكن أخرى
كما منح المصنّعون الصينيون في كل مرحلة من مراحل سلسلة التوريد، البلاد ، ميزة امتدت لعقود ، وسيستغرق تكرارها أو إيجاد بديل لها وقتًا
إن هذه الخبرة الفريدة في سلسلة التوريد والدعم الحكومي جعلا من الصين خصمًا عنيدًا في هذه الحرب التجارية ، ومن بعض النواحي ، كانت بكين تستعد لهذا منذ ولاية ترامب السابقة
نعم اميركا صاحبة اكبر اقتصاد في العالم ، لكن هذا المركز حازت عليه نتيجة هيمنتها ، بينما الصين حازت على مركزها بجدارة ، وليس هذا فقط ، بل بات لديها القدرة على الإطاحة بخصمها ، عبر ما وصفه الخبراء بـ ( بريتون وودز 2) وما شكلته من صدمة ، حيث تعمل الصين على إعادة كتابة الشيفرة الأساسية للاقتصاد العالمي بإستخدام تقنية البلوك تشين
فما قامت به الصين يوم 17 مارس 2025 هو إحدى الدوافع التي اجبرت ترامب على التهور ، حيث أعلن بنك الشعب الصيني فجأة أن نظام التسوية العابرة للحدود للعملة الرقمية الصينية (اليوان الرقمي) سيتم ربطه بالكامل مع الدول العشر في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) وست دول في الشرق الأوسط ، مما يعني أن 38% من حجم التجارة العالمية سيتجاوز نظام SWIFT الذي يهيمن عليه الدولار الأمريكي وسيدخل مباشرة إلى “لحظة اليوان الرقمي”
بينما لا يزال نظام SWIFT يعاني من تأخير يتراوح بين 3 إلى 5 أيام في المدفوعات العابرة للحدود ، لكن الصين بقرارها هذا بَنت جسرًا للعملة الرقمية نتج عنه تقليص سرعة التسوية إلى 7 ثوانٍ فقط
وبالتالي لم تعد الأموال تمر عبر ستة بنوك وسيطة ، بل اصبح يتم استلامها في الوقت الفعلي من خلال دفتر حسابات موزع ، وبذلك انخفضت رسوم المعاملات بنسبة 98% هذه القدرة على “الدفع الفوري” جعلت نظام التسوية التقليدي القائم على الدولار يبدو بطيئًا وغير فعال
فضلاً عن ان التقنية القائمة على البلوك تشين المستخدمة في اليوان الرقمي لا تجعل المعاملات قابلة للتتبع فحسب ، بل تفرض تلقائيًا قواعد مكافحة غسيل الأموال
هذا التفوق التكنولوجي دفع 23 بنكًا مركزيًا حول العالم للانضمام إلى اختبارات جسر العملة الرقمية ، حيث تمكن تُجار الطاقة في الشرق الأوسط من خفض تكاليف التسوية بنسبة 75%
التأثير العميق لهذا التحول التكنولوجي يكمن في إعادة تشكيل السيادة المالية ، ففي الوقت الذي حاولت فيه الولايات المتحدة فرض عقوبات على إيران من خلال SWIFT، كانت الصين قد أنشأت بالفعل حلقة مغلقة من المدفوعات باليوان في جنوب شرق آسيا ، هذه الموجة من “إلغاء هيمنة الدولار” دفعت بنك التسويات الدولية إلى التصريح “الصين تعيد تعريف قواعد اللعبة في عصر العملات الرقمية” ولقد أكملت 87% من دول العالم تكييف أنظمتها مع اليوان الرقمي، وتجاوزت قيمة المدفوعات عبر الحدود به 1.2 تريليون دولار أمريكي
فاليوان الرقمي ليس مجرد أداة دفع ، بل هو عنصر أساسي في مبادرة “الحزام والطريق”
( مشاريع مثل سكة حديد الصين-لاوس وسكة حديد جاكرتا-باندونغ عالية السرعة) ، فلقد تم دمج اليوان الرقمي مع نظام بيدو للملاحة والاتصالات الكمية لبناء “طريق الحرير الرقمي” وعندما تستخدم شركات السيارات الأوروبية اليوان الرقمي لتسوية رسوم الشحن عبر الطريق القطبي ، فإن الصين تستخدم تقنية البلوك تشين لزيادة كفاءة التجارة بنسبة 400%
ختامًا ، [هذا النهج الذي يجمع بين العالمين الافتراضي والواقعي جعل الهيمنة المالية للدولار تواجه تهديدًا هيكليًا للمرة الأولى] … لقد قامت الصين بهدوء ببناء شبكة مدفوعات رقمية تغطي 200 دولة ، بينما لا تزال الولايات المتحدة تناقش ما إذا كانت العملات الرقمية تشكل تهديدًا لمكانة الدولار … [ هذه الثورة المالية الصامتة لا تتعلق فقط بالسيادة النقدية ، بل تحدد أيضًا من سيسيطر على شريان الاقتصاد العالمي في المستقبل ]
2025-05-08