الانتقام ليس سياسة!
إيان إس. لوستيك- تقديم وترجمة غانية ملحيس
تقديم :
يكتسب مقال إيان إس. لوستيك في مجلة الشؤون الخارجية بتاريخ 13/10/2023 أهمية فائقة، ويتطوي في الآن ذاته على خطورة بالغة ، لدعوته إلى تجزئة التعامل مع القضية الفلسطينية من خلال إعطاء الأولوية لحل معضلة قطاع غزة. ويدعو الولايات المتحدة الأمريكية إلى إعمال العقل والخروج من دائرة رد الفعل على هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر ، ومعالجة أسبابه لمنع تكراره مجددا، بمعالجة جذوره . وعندما يتناولها لا يتطرق إلى جوهر الصراع الفلسطيني- الاسرائيلي بدءا بصدور وعد بلفور العام 1917 لاستبدال فلسطين بإسرائيل، واستبدال شعبها العربي الفلسطيني بالمستوطنين اليهود المستقدمين من مختلف بقاع الأرض. بل ينطلق من تأسيس إسرائيل عام 1948، بعد حرب أهلية دامية بين اليهود والعرب، وتدخل الأمم المتحدة للفصل بينهما بتقسيم فلسطين. وانسحاب بريطانيا -التي كانت تحكم فلسطين لعقدين ونصف – ما أحدث فوضى ، وعجز الأمم المتحدة ،آنذاك، عن “توفير المال أو القوات أو الإداريين لتنفيذ قرارها” ما تعذر معه قيام الدولة العربية !
يحاول المقال تفسير الأسباب الجوهرية للهجوم بعزله عن السياق الوطني الفلسطيني ، ووضعه في سياق تداعيات النكبة الفلسطينية على قطاع غزة . وفيما يلي تلخيص لأهم ما جاء في المقال:
– الانتقام ليس سياسة لمعالجة معضلة قطاع غزة.
– أهمية تمييز صناع القرار الأمريكي بين التعاطف مع إسرائيل وبين الفاعلية السياسية. فردود الفعل العاطفية من واشنطن لن تمنع العنف في المستقبل. فيما منعه يكمن بتفكيك سجن غزة وهو أمر ممكن.
– التنبه إلى خطورة التجييش الجاري الذي يشارك فيه الرئيس الأمريكي وإدارته ووسائل الإعلام، بربط حركات المقاومة الإسلامية الفلسطينية بالقاعدة وداعش، لتوظيف الصورة النمطية التي تشكلت في الوعي الدولي بعد هجوم القاعدة في 11/9/2001 وبعد ظهور داعش، ما يشوش التفكير ويحرفه ويعطل القدرة على إيجاد الحلول الناجعة.
– تغيير الإطار المرجعي للتفكير الأمريكي، بمعرفة أسباب الهجوم ومعالجتها لمنع تكرار حدوثه.
– الصدمة التي أصابت إسرائيل والعالم تفوق صدمة العبور المصري والسوري قبل خمسين عام وحطمت الأساطير حول مناعة الجيش الإسرائيلي وكفاءة أجهزة المخابرات الإسرائيلية. لأن الهجوم آنذاك كان في أراضيهما المحتلة ، فيما هجوم السابع من أكتوبر جرى داخل إسرائيل.
– تحدي فكرة أن إسرائيل تعيش “حياة طبيعية” “كفيلا”يهودية صهيونية حصينة محمية بجدران من الخرسانة والفولاذ، ويسودها الخوف في مواجهة غابة الشرق الأوسط المظلمة التي تحيط بها.
– تعصب المسلحين الذين نفذوا الهجوم ليس نتاج براعة فلسطينية ومسلمة خاصة، أو شر فطري. وإنما هو ناجم عن صعوبة الواقع الذي فرض على قطاع غزة لنحو ثمانية عقود متصلة.
– عدم كفاية تفسير نجاح الهجوم بنقص كفاءة الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية والإهمال وغطرستها، وهو ما يتعذر إنكاره. بل بالإدراك بأن أي نظام مصمم لاحتواء الضغوط المتفجرة والمتزايدة باطراد سوف يفشل.
يستعرض الكاتب الأسباب الحقيقية التي تقف وراء الهجوم ويلخص أبرزها بـ:
– عدم معالجة تبعات إنشاء إسرائيل عام 1948 ، وتجاهل تداعيات تهجير 750 ألف فلسطيني وتدمير مدنهم وقراهم ومنع عودتهم، وتحويلهم إلى لاجئين دائمين/ ربعهم لجأ الى قطاع غزة. المحدود في المساحة والموارد/ وحرمان سكانه من أساسيات الحياة.
– سياسة إسرائيل في تعزيز الهوية الدينية الإسلامية ، باعتبارها أقل تهديدا من الهوية القومية الفلسطينية. وتشجيعها لحركات الإسلام السياسي لمنافسة منظمة التحرير الفلسطينية الطامحة لبناء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، والنظر إليها على أنها العدو الحقيقي.
– تعامل الحكومات الاسرائيلية مع اتفاق اوسلو كوسيلة لاستيعاب منظمة التحرير الفلسطينية وتوظيفها في قمع المقاومة. مقابل إقامة دويلة تحت حكمها. وبالتوازي تسريع الاستيطان وتقويض فرص قيامها. ما أضعف شرعية السلطة، وعزز شرعية حماس.
– الانسحاب الأحادي من قطاع غزة عام 2005 ورفض التفاوض مع السلطة حول أي ترتيبات للعلاقات بين القطاع وإسرائيل بعد الانسحاب.
– الانقلاب على نتائج الانتخابات التي فازت بها حماس عام 2006 وفرض حصار محكم على قطاع غزة، ورعاية الانقسام الفلسطيني لعزل الضفة الغربية وقطاع غزة.
– يخير الكاتب إسرائيل ويحثها على أن تقرر فيما إذا كانت لا تريد غزة . فيمكنها حينذاك أن توكل مهمة إدارتها للأمم المتحدة ، وتنميتها باموال التعويضات الاسرائيلية والعون الخليجي والمساعدات الأمنية الدولية. أو بتنفيذ اقتراح الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب بصفقة القرن، بتوسيع مساحة القطاع باتجاه النقب والسماح بنقل مئات الآلاف من سكان قطاع غزة إليه ومنحهم حقوقا متساوية للمشاركة في حياة الدولة التي تحكمهم. وسوف يتطلب ذلك، المواطنة المتساوية للجميع.
– اللافت أن الكاتب أسقط كليا خيار قيام دولة فلسطينية في المناطق الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967. ورغم أنه اختتم مقاله بالإشارة إلى تفوق عدد العرب على اليهود في فلسطين الانتدابية. إلا أنه اعتبر ذلك مشكلة صعبه تتعلق بكيفية عيشهم معا، وبطبيعة الدولة التي يتقاسمونها.والملفت أنه يعتبر ذلك أقل وطأة من معضلة غزة. وأفضل من المشاكل التي سنواجهها غدا، إذا استمرت السياسات المتبعة في معالجة أهوال الكارثة فقط، وليس أسبابها.
وفيما يلي ترجمة للمقال:
الانتقام ليس سياسة ردود الفعل العاطفية من واشنطن لن تمنع العنف في المستقبل. تفكيك سجن غزة أمر ممكن.
إيان إس. لوستيك
إن المشهد المذهل والأهوال الحميمة للهجوم الذي شنته حماس والجهاد الإسلامي ضد الإسرائيليين يجعل من الصعب أكثر من المعتاد فهم سبب حدوثه، وكيف يمكن منع حدوثه مرة أخرى. ببساطة، ليس هناك مفر من رؤية أو سماع أشخاص من جميع الأعمار – بما في ذلك الأطفال والمراهقين وكبار السن والمعاقين – يتعرضون لمعاملة وحشية، أو يثقبون بالرصاص، أو يتم جرهم إلى الأسر. إن الرعب والألم الذي يشعر به الضحايا ومعاناة عائلاتهم – الذين أصبحت مظاهرهم ولهجاتهم وقصص حياتهم مألوفة لدى الجماهير الأمريكية والأوروبية – تجعل من الصعب للغاية إجراء تحليل فعال.
هذه ردود أفعال حقيقية وطبيعية ولا يمكن إنكارها. إن الحقائق العاطفية والأخلاقية التي تعكسها ضرورية للاستجابة الفعالة. لكن كثافتها خطيرة. وهذا ينطبق على الرؤساء وكذلك الأشخاص العاديين.
إن تعاطف الرئيس الأميركي جو بايدن مع حزن الضحايا الإسرائيليين وإدانته القاطعة للهجوم باعتباره مماثلاً لتلك التي ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية يعكس مشاعره الصادقة، ويتطابق مع مشاعر قسم كبير من جمهوره. لكن أن تكون حاضرا عاطفيا لا يعني أن تكون فعالا سياسيا.
لكي نمنع حدوث الوحشية التي تم إطلاق العنان لها على الإسرائيليين الأبرياء مرارا وتكرارا، إلى جانب الانتقام الذي يعاني منه الفلسطينيون الأبرياء نتيجة لذلك. يجب أن لا نعتمد على اليقين بشأن اشمئزازنا، بل علينا تحديد ومعالجة أسباب الهجوم. أنا لا أشير إلى الحسابات والقرارات وعمليات الانتشار المحددة داخل غزة التي أدت إلى إراقة الدماء هذه، بل إلى آلة القمع المؤسسي والكراهية والخوف التي تشكل البنية التحتية الحقيقية للعنف. إن العمود الفقري لهذه الآلة هو البؤس والسجن والصدمة التي لا نهاية لها، والتي يتعرض لها الناس الذين يعيشون في ما يشير إليه الإسرائيليون بـ “الجيب الساحلي”.
ركزت تغطية هجمات السابع من تشرين الأول /أكتوبر/على وحشيتها.وتشابهها الغريب مع الأحداث التي وقعت قبل نصف قرن على طول قناة السويس وفي مرتفعات الجولان. والتي حطمت الأساطير التي كانت سائدة، آنذاك، حول مناعة الجيش الإسرائيلي وكفاءة أجهزة المخابرات الإسرائيلية التي تتمتع بالمعرفة والخبرة المهنية الكاملة. لكن صدمة الفشل هذه المرة هي أكثر إثارة للقلق، لأن الضربة وجهت ضد مدنيين داخل الأراضي الإسرائيلية، وليس ضد وحدات عسكرية متمركزة داخل الأراضي المحتلة.
ما هو على المحك اليوم ليس ما إذا كان جيش الدفاع الإسرائيلي أفضل حالا في مواجهة الدول العربية المعادية مباشرة، أو مع وجود مناطق منزوعة السلاح بينهما. إن ما يواجه تحديا الآن هو فكرة أن إسرائيل تعيش حياة “طبيعية” باعتبارها “فيلا” يهودية صهيونية محمية بجدران من الخرسانة والفولاذ، ويسودها الخوف في مواجهة غابة الشرق الأوسط المظلمة التي تحيط بها.
إذا أردنا حقا معرفة ومعالجة أسباب المذبحة التي شهدناها، والتي لا بد أن نشهدها مرة أخرى، فيجب علينا تغيير إطارنا المرجعي.
إن تعصب المسلحين الذين نفذوا الهجوم وارتكبوا جرائم حرب وتعطشهم للدماء، بالإضافة إلى حسابات قادتهم وتكتيكاتهم وقسوتهم، ومهارتهم في التعبئة، واستعدادهم للموت، ليس نتاج براعة فلسطينية ومسلمة خاصة أو شر فطري. وإنما ما يمكن أن يحدث- وربما سيحدث حتما – عندما يتم التعامل مع أعداد كبيرة من البشر كما عومل 2.3 مليون إنسان يعيشون في قطاع غزة منذ عقود. ولا يمكن تفسير هذا الحدث بعدم الكفاءة والغطرسة التي لا يمكن إنكارها،والإهمال الواضح من جانب الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية. فأي نظام مصمم لاحتواء الضغوط المتفجرة والمتزايدة باطراد سوف يفشل.
كل من يروي قصة، يعلم أن معظم عمل السرد يتم في اختيار المكان الذي تبدأ منه القصة. إذا بدأت قصة هذا الهجوم في صباح يوم العطلة والسبت في 7 أكتوبر، فإنها تصبح قصة 11 سبتمبر لضحايا أبرياء يتعرضون للعنف غير المبرر من قبل البرابرة. ثم تتكشف الحبكة في صورة صراع للتغلب على صدمة الضربة المدمرة، ومن ثم هزيمة المعتدين ومعاقبتهم نيابة عن الإنسانية الغاضبة.
لكن إذا نظرنا إلى القصة على أنها بدأت عام 1948، عندما كان أجداد لاجئي غزة هم الذين عاشوا في المناطق التي عاد إليها أحفادهم المسلحون لفترة وجيزة وبعنف، فإن مغزى القصة والسرد يتغير بشكل جذري ومتطلبات النهاية المرضية .
في هذا الإطار الزمني الأوسع، لم تبدأ حماس والجهاد الإسلامي الحرب، أطلقوا ثورة في السجن. إن تقدير حقيقة هذا الإطار يتطلب القليل من الخلفية التاريخية.
قبل إعلان إسرائيل كدولة في أيار/مايو/ 1948، كانت الأراضي المحيطة بغزة تضم عشرات البلدات والقرى العربية الفلسطينية، وأكبرها المجدل – وهي الآن مدينة عسقلان اليهودية بالكامل.
عندما صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 29 تشرين الثاني /نوفمبر/1947، على تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية ودولة عربية فلسطينية، تم تخصيص هذه المنطقة بأكملها – بما في ذلك غزة والمناطق المحيطة بها وأجزاء من صحراء النقب – لأن تكون ضمن الدولة العربية. لكن الأمم المتحدة فشلت في توفير المال أو القوات أو الإداريين لتنفيذ قرارها. وبعد أن تركوا فلسطين للفوضى، قام البريطانيون، الذين حكموا المنطقة لأكثر من 20 عاما، بسحب قواتهم من مدينة بعد مدينة ومن منطقة بعد منطقة. وبينما فعلوا ذلك، انغمس اليهود والعرب في حرب أهلية مليئة بالفظائع حول المناطق التي ستقع تحت الحكم اليهودي أو العربي.
نتيجة هذه الحرب الأهلية، والمعارك بين إسرائيل وقوات التدخل السريع التابعة للدول العربية التي غزت فلسطين في مايو 1948، والحملات الإسرائيلية المنهجية المتزايدة لطرد المدنيين العرب من الأراضي التي كانت ستصبح الدولة العربية، كان التهجير ل 750 ألف فلسطيني؛ ووجد 200 ألف منهم مأوى في قطاع ضيق من ساحل فلسطين الذي تحتله القوات المصرية، وهو ما أصبح يعرف باسم قطاع غزة. إن ورفض إسرائيل السماح لأولئك الذين فروا أو طردوا بالعودة إلى منازلهم، وما تلا ذلك من تدمير قراهم وبلداتهم وأحيائهم، ما أدى إلى تحويل هؤلاء النازحين إلى لاجئين.
ومنذ هدنة عام 1949 حكمت أو سيطرت مصر على قطاع غزة حتى عام 1956. وإسرائيل من تشرين الأول/أكتوبر /1956 حتى آذار /مارس/1957، ثم مصر مرة أخرى منذ ذلك الحين حتى حزيران /يونيو /1967، ثم إسرائيل منذ ذلك الحين .
طغى السكان اللاجئون في القطاع على الفور على سكانه الأصليين. وأدت المقاومة الشرسة ضد الاحتلال الإسرائيلي في أوائل سبعينيات القرن الماضي إلى السياسات التي نفذها آرييل شارون، الذي أصبح فيما بعد رئيسا لوزراء إسرائيل، والتي دمرت شبكة الطرق عبر الأحياء المكتظة بالسكان، وقتلت مئات الفلسطينيين، وسحقت منظمات حرب العصابات الفلسطينية المتطرفة التي كانت متحصنة في مخيمات اللاجئين.
حصار غزة ليس حلا
نظرا لأن الهوية الدينية الإسلامية أقل تهديدا من القومية الفلسطينية، عرضت السلطات الإسرائيلية بعد ذلك الدعم لفرع جماعة الإخوان المسلمين في غزة. وبحلول وقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى /التي بدأت في أواخر العام 1987/ ،تمكنت جماعة الإخوان المسلمين من تأسيس حماس (رسميا حركة المقاومة الإسلامية) لمنافسة منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها طليعة النضال الفلسطيني.
قد يبدو غريبا أن يكون لإسرائيل يد في خلق عدوها، لكنه ليس غريبا تماما، إذا أخذنا بعين الاعتبار التعليقات العامة التي صدرت قبل هجوم السابع من أكتوبر – من قبل كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وبتسلئيل سموتريش، وزير المالية، الذي أصبح المسؤول إلى حد كبير عن شؤون المستوطنين في الضفة الغربية – أن السلطة الفلسطينية القومية، مع طموحها لبناء دولة قومية فلسطينية إلى جانب إسرائيل، يجب أن يُنظر إليها على أنها العدو الحقيقي، مقارنة بحماس، التي تهدد الموقف السياسي للسلطة الفلسطينية. ما جعلها، في نظرهم، رصيدا قيما.
أكثر من أي شيء آخر، عكست اتفاقيات أوسلو في التسعينيات استراتيجية جديدة للحكومة الإسرائيلية تعتمد على ما كانت تأمل أن يكون قابلية الانقياد وجشع قادة منظمة التحرير الفلسطينية، بدلا من السلبية النسبية التي ربطتها الحكومات السابقة (عن طريق الخطأ) بالإخوان المسلمين.. سُمح لياسر عرفات وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية بالعودة إلى فلسطين من منفاهم في تونس على أساس أنهم سيقمعون العداء الشعبي لإسرائيل مقابل دولة أو دويلة يحكمونها. ولكن إسرائيل قضت على هذه الفكرة بشكل أو بآخر برفضها تخصيص القدر الكافي من السلطة لعرفات وحكومته “المؤقتة” لتمكينها من بناء الشرعية بين الفلسطينيين.
منذ توقيع اتفاقات أوسلو، أدى التوسع المستمر في المستوطنات في الضفة الغربية، واغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين، وانفجار أعمال العنف المرتبطة بالانتفاضة الثانية -التي بدأت عام 2000- إلى تدمير أي احتمال للتوصل إلى اتفاق. لقد تم التفاوض على حل الدولتين ــ وهي الرؤية التي كانت مكروهة ذات يوم ثم تم تبنيها على نطاق واسع، ولكنها لم تعد قابلة للتحقيق، وهي الرؤية المتمثلة في إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة والتي من شأنها أن توفر للفلسطينيين تحقيقا كافيا لتطلعاتهم لإنهاء الصراع العربي- الإسرائيلي.
وفي عامي 2002 و2003، حاصرت حكومة شارون مقر عرفات في رام الله، ثم «نقلته» إلى فرنسا، حيث توفي في العام التالي.
في العام 2005، وعلى أمل التخلص من الصداع الناتج عن تحمل المسؤولية عن العدد الكبير من اللاجئين الفقراء والمعادين في غزة ،وعزلها عن الضفة الغربية، قامت إسرائيل بإجلاء جيشها و9000 مستوطن من قطاع غزة. كما رفضت التفاوض مع السلطة الفلسطينية حول أي ترتيبات للعلاقات بين القطاع وإسرائيل بعد الانسحاب.
وعندما فازت حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، ردت إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة، بمحاولة انقلاب فاشلة لاستبدالها بالقوة بحكم فتح لغزة. ثم هزمت حماس قوات فتح في غزة وأمنت هيمنتها السياسية هناك. الأمر الذي دفع إسرائيل إلى عزل سكان غزة عن إسرائيل.وامتنعت بعض الخرائط الإسرائيلية الرسمية، وما تزال تمتنع، عن تصنيف غزة على أنها خارج حدودها الدولية.
أصبحت غزة سجنا مفتوحا متعطشا للموارد ومكتظا بالسكان، وأجبرت على الاعتماد على إسرائيل في الغذاء والماء والكهرباء والتجارة وتسليم البريد والوصول إلى صيد الأسماك والرعاية الطبية والاتصال بالعالم الخارجي. ومنذ ذلك الحين، تعاملت إسرائيل فعليا مع حماس باعتبارها منظمة الأسرى المسؤولة عن منع السجناء – الذين لم تتم محاكمة أي منهم، وجميعهم محكوم عليهم بالسجن مدى الحياة – من إيذاء إسرائيل أو الإسرائيليين.
تم تعزيز هذه العلاقة من خلال المعاقبة بالتوغلات العسكرية الإسرائيلية في القطاع: لمدة 23 يوما في الفترة 2008-2009، وخمسة أيام في العام 2012، و50 يوما في العام 2014، و15 يوما في العام 2021، مما أسفر عن مقتل أكثر من 6400 فلسطيني بين عامي 2008 و2009. 2008 وأيلول / سبتمبر /2023 وألحقت أضرارا بمليارات الدولارات. ولكن بين هذه العمليات “لجز العشب”، تعاونت الحكومات الإسرائيلية وحماس بما يكفي لمنع الكوارث الإنسانية، ومواصلة دفع رواتب بيروقراطيي حماس، وقمع جهود تنظيم الدولة الإسلامي والجهاد الإسلامي لإلحاق أكبر قدر ممكن من الضرر بإسرائيل.
كما هو الحال في أي سجن، تميز السلطات الإصلاحية بين النزلاء الذين يعتبرون بشكل فردي مجرمين ويستحقون العقاب، وبين المنظمة التي تمثل هؤلاء النزلاء، والتي يمكن أن تكون شريكا مفيدا وموثوقا. وكما هو الحال في أي سجن، يختار السجانون “أمناء” من بين السجناء للحصول على مكافآت والعمل كمخبرين. وهكذا، على سبيل المثال، يُسمح لأعداد صغيرة ولكن متفاوتة من الفلسطينيين الذين تم فحصهم بعناية في غزة، في ظل ظروف “حسن السلوك” العامة في السجن، بمغادرة حدوده للعمل مقابل أجر في إسرائيل، والعودة كل ليلة إليه .
إن التصريحات التي ذكرها الوزراء الإسرائيليون أعلاه، والتي تفضل حماس على السلطة الفلسطينية، تساعد في تفسير حقيقة أنه لم تعتمد أي حكومة إسرائيلية بشكل كامل أو صريح على حماس كأداة لإدارة غزة، أكثر مما فعلت حكومات نتنياهو الأخيرة. ومع اقتناعه بأن دفاعات القبة الحديدية المضادة للصواريخ وحاجزها المتطور والمكلف تحت الأرض قد أدى إلى تحييد قدرة حماس على إيذاء إسرائيل من خلال إطلاق الصواريخ فوق جدران السجن، أو حفر الأنفاق تحتها، نجح نتنياهو في تشكيل صورة لحماس باعتبارها مستأنسة.
في مارس 2019، وفقا لصحيفة هآرتس، قال نتانياهو في اجتماع لأعضاء الكنيست من حزب الليكود إن “كل من يريد إحباط إقامة دولة فلسطينية عليه أن يؤيد دعم حماس، ونقل الأموال إلى حماس. وهذا جزء من استراتيجيتنا – عزل الفلسطينيين في غزة عن الفلسطينيين في الضفة الغربية”.
إن سياسة نتنياهو في الاعتماد على حماس لمنع سجن غزة من الغليان سمحت لحكومته بتركيز كل اهتمامها على تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية، وتعزيز الإصلاح القضائي لتمكين الضم دون منح الفلسطينيين حقوقا مدنية أو سياسية، ومداهمة المدن الفلسطينية ومخيمات اللاجئين. ولم يعد بإمكانها الاعتماد على السلطة الفلسطينية للسيطرة على المخيمات لاعتقال أو قتل المسلحين. وبينما كان السجانون ينظرون في الاتجاه الآخر، وضعت منظمة الأسرى في غزة خططها المخبأة بعناية للثورة موضع التنفيذ.
التفكير في الحاضر بهذه الطريقة ضروري لمنع الثورات العنيفة في المستقبل. والحقيقة المرة هي أن غزة هي مشكلة إسرائيل، لأن غزة، سواء شئنا أم أبينا، جزء من إسرائيل. وعلى الرغم من أن معظم الحكومات ووسائل الإعلام كانت تشير إلى القتال على أنه حرب بين الدول، إلا أن الأمر ليس كذلك.
لا تعترف إسرائيل بغزة أو بفلسطين كدولة، ولا بحماس كسلطة حاكمة شرعية على سكانها. ومن المفيد أن يكون رد فعل إسرائيل الأولي على الهجوم هو قطع الكهرباء والغذاء والدواء والمياه عن المنطقة بأكملها. لا تستطيع أي دولة أن تفعل هذه الأشياء لدولة أخرى، لكنها تستطيع أن تفعل ذلك لإقليم تحيط به وتهيمن عليه.
لذلك، قبل رفض فكرة اعتبار غزة سجنا إسرائيليا مكتظا، باعتبارها غريبة، ضع في اعتبارك أن ما يحدث في زنزانات وساحات السجون الإسرائيلية – كما هو الحال في بيت شيعان أو عسقلان أو مجدو، حيث معظم السجناء من الفلسطينيين – ولا يخضع لسيطرة السجانين بل لمنظمات الأسرى الفلسطينيين . إن المطلعين على نظام العدالة الجنائية الإسرائيلي يعلمون أن هذا صحيح، ولا أحد يتخيل أن يقول إن هذه السجون ليست موجودة في إسرائيل. وبهذا المعنى، فإن السجن الذي تبلغ مساحته 140 ميلا مربعا والمعروف باسم قطاع غزة، والذي تهيمن حماس على شؤونه الداخلية، يقع أيضا داخل إسرائيل.
يعلم الجميع مدى وحشية هروب السجناء، وكيف يتم سحق ثورات السجون بقسوة، وكم يعاني العديد من السجناء غير المتورطين في أعمال العنف نتيجة لذلك. لقد رأينا الأول، ونحن الآن نرى الثاني. ولكن يُنظر إلى ثورات السجون أيضا على أنها علامات واضحة على مدى عدم فعالية إدارة السجن أو قسوتها أو نتائجها العكسية. فهي تؤدي، في كثير من الأحيان، إن لم يكن دائما، إلى إصلاح السجون، أو في بعض الحالات، إلى إغلاق السجون.
والحقيقة أن هذا هو المطلوب في حالة سجن غزة. يجب على إسرائيل أن تقرر: إذا كانت لا تريد غزة، فيجب عليها أن تسمح للأمم المتحدة بالسيطرة عليها ومساعدتها – بالتعويضات الإسرائيلية، والأموال الخليجية، والمساعدات الأمنية الدولية – لتحقيق أفضل مستقبل يمكنها تحقيقه.
إذا أرادت إسرائيل الاحتفاظ بغزة، فيجب عليها، كما دعا الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى جزء يتم تجاهله في كثير من الأحيان من خطة للفلسطينيين، فتح المناطق المأهولة بالسكان بشكل طفيف في منطقة شمال النقب في إسرائيل لمئات الآلاف من سكان غزة،الذين كانت منازل أجدادهم بمجرد وجودهم هناك، ويمنحون حقوقا متساوية للجميع للمشاركة في حياة الدولة التي تحكمهم. وفي نهاية المطاف، يعني هذا، وسوف يتطلب، المواطنة المتساوية للجميع.
عدد العرب الآن أكبر من عدد اليهود الذين يعيشون بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن. إن المشاكل المتعلقة بكيفية عيشهم معا، وما يعنيه العيش معا في نهاية المطاف بالنسبة لاسم وطبيعة الدولة التي يتقاسمونها، هي مشاكل شاقة. ولكن مثل هذه المشاكل أفضل من تلك التي نواجهها اليوم، وأفضل من تلك التي سنواجهها غداً إذا استمرت السياسات المتبعة في معالجة أهوال الكارثة فقط وليس أسبابها.
*إيان إس. لوستيك أستاذ في جامعة بنسلفانيا ومؤلف كتاب النموذج المفقود: من حل الدولتين إلى واقع الدولة الواحدة.
2023-10-16