الإنسحاب الأميركي فشل آخر لإستراتجياتها واستراتيجيات التحالف
عبير بسام
لا يعتبر قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالإنسحاب من سوريا الأول من نوعه، فقد أعلن حين انتخابه، في 20 كانون الثاني/ يناير 2017، أنه ينوي سحب القوات الأميركية من سوريا، لأنه كان يظن أن عملها هناك محدود ولا حاجة استراتيجية له. تدخلت يومها حكومة العدو الصهيوني والبنتاغون وبذلوا جهوداً حثيثة من أجل دفع ترامب للتراجع عن موقفه.
في المرة الثانية، التي أعلن بها ترامب أنه سينسحب من سوريا كان في نيسان/ أبريل من هذا العام، ويومها تدخل ماكرون وذهب لزيارة ترامب في العاصمة الأميركية، كما أعلن قبل ذهابه أنه سيحاول إقناع الرئيس الأميركي بالعدول عن رأيه. وفي التاسع عشر من هذا الشهر كان إعلان ترامب الصدمة، بانسحاب الجيش الأميركي خلال مدة تتراوح ما بين 60-100 يوماً. صحيح أن رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو في تغريدة له على تويتر قال ـ وعلى مضض ـ بأن أصدقاءه الأميركيين قد ناقشوا الموضوع معه، ولكن ردات الفعل التي تعبر عنها التصريحات الإسرائيلية تؤكد جدية الخطوة والتي جاءت كصفعة للكيان الصهيوني.
وضع الأميركيون مجموعة من الأهداف للخروج من سوريا، أولها تغيير النظام، وانسحاب القوات الإيرانية من سوريا، وآخرها القضاء على “داعش”، والتي بحسب تصريحات ترامب في تجمع انتخابي في ولاية فلوريدا في 11 آب/ أوغسطس 2016، فإن باراك أوباما هو من أسس “داعش” وأن هيلاري كلينتون شريكة له في ذلك.
واليوم وبعد عامين كاملين لم يصدر أي تصريح من المتهمين بنفي هذه الإتهامات. والملفت أكثر من ذلك أنه بعد دخول “داعش” إلى سوريا وإعلان دولة الخلافة وعاصمتها الرقة في نيسان/ أبريل من العام 2013، قامت القوات الأميركية بإنشاء قاعدة التنف في 2014 على الحدود العراقية-السورية، وفي العام 2015 دخلت داعش منطقة التنف وسيطر مقاتلوها عليها.
لا يمكن البناء على الصدف بما يتعلق بالمواضيع العسكرية والسياسية، فالتحليل والوقائع التاريخية تثبت مدى التعاون الأميركي مع “داعش” في تمكينها من السيطرة على مناطق الفرات والبادية السورية. هذا إضافة إلى أشار إليه محمد حسنين هيكل من أن الولايات المتحدة أكبر مشارك في إنشاء تنظيم “داعش” وأن تركيا هي الراعي الأعظم؛ إضافة إلى تصريح الأمير الوليد بن طلال على قناة الـ سي ان ان في العام 2014 بأن التنظيم أنشئته دولاً خليجية من أجل الإطاحة بالنظام السوري.
وبناء على ما سبق من تورط تركي برعاية كل من “النصرة” و”داعش”، يبدو أن الأتراك من خلال هذا الدخول يحاولون تبيض صفحتهم، ولكن ذلك لن يحقق شيئاً لهم ولكنه سيكرس نصراً مزعوماً للتحالف الذي ادعى على لسان ترامب الإنتصار على “داعش”، أي أنه خرج بشرف بعد أن أنهى التنظيم الذي ابتدعته دولته. ولكن ما أعلنه ترامب هو رسائل متناقضة كما يقول الجميع في القيادات الأميركية، التي أعلنت أن الإنسحاب سيضر بالإستراتيجية الأميركية. وببساطة لأن الخروج الأميركي من سوريا يشبه الخروج الإسرائيلي في جميع معطياته من جنوب لبنان في العام 2000. لكن خروج الأميركيين اليوم بعد تكريس الصداقة مع الحليف القديم “تركيا”، سببه فتح المجال للأتراك للعمل بحرية، وإخلاء قاعدة منبج، التي قوامها 400 من قوات النخبة، وهذا الإخلاء سيقوم بكشف الأكراد في الشمال السوري.
بالنسبة للأتراك فإن المعركة القادمة لن تكون سهلة. فبالإضافة إلى الفصائل الإرهابية التي بقيت في إدلب ليس هناك من يدعم الوجود العسكري التركي في سوريا ويبدو أن التركي سوف يخوض مستنقعاً نأمل ألا تعلق قدماه فيه، لأن هذا سيطيل أمد الحرب في إدلب. واليوم ستدخل القوات التركية إلى مناطق شرق الفرات، ولكن من يظن أن من سيملئ الفراغ الأميركي في شرق الفرات هم الأتراك فهم فعلياً مخطئ. قد يكون الإجراء مؤقت، ولكن ما لن تقبل به الحكومة السورية أبداً هو تبديل الإحتلال الأميركي باحتلال تركي، والأميركيون والفرنسيون يعرفون ذلك. وإذا ما كان ترامب يحاول أن يحافظ على حليفة واشنطن القديمة في المنطقة في شمال سورية فعليه أن لا يتكل عليها كثيراً. لأن هؤلاء الذين بذلوا الدماء من حلفاء سوريا في محور المقاومة إلى جانب جيشها لن يقبلوا، إلا بعودة سوريا الموحدة تحت علم الدولة السورية، وأن على جميع الجيوش الأجنبية المغادرة، وهذا ما صرح به كل من القادة السوريون والروس والإيرانيون في جميع المناسبات.
يصرخ اليوم الأكراد بأنهم قد طعنوا بالظهر!
في الحقيقة من يقرأ الأوضاع التي تسود في المنطقة يعرف أن الأميركيين منذ شهور أعلنوا للأكراد أن عليهم تسوية أوضاعهم مع الدولة السورية، وأن القرار بإقامة دولة كردية قد انتهى. وعلى الرغم من محاولات الأكراد التنسيق مع الفرنسيين منذ نيسان/ أبريل الماضي، ورحلاتهم المكوكية إلى روسيا كانت تدل على أنهم في حالة من الإحتضار السياسي. وأن الحلم بدولة في سورية على غرار تلك التي في العراق والتي تعيش في حصار. وضع الأكراد سيصبح أسوء إذا ما خرج الفرنسيون أيضاً وابتدأت العملية التركية المرتقبة قريباً، والتي ستقوض جميع أمالهم. ولكن السؤال هنا إذا ما كان من الممكن التعويل عليهم كمواطنين سوريين أم لا؟! اذ أن ما قاموا به رفع من مستوى الحذر تجاههم على المستويين الشعبي والقيادي، خاصة وأن السجون الكردية قد غصت بأسرى سياسيين عرب سوريين وقد تمت عمليات تصفية للكثير منهم، هذا ماعدا التصفيات التي تقوم بها داعش. الأمر الذي خلق شرخاً ما بينهم وما بين جميع فئات الشعب السوري التي تسكن في منطقة الجزيرة، أسواء في شرقها أم في غربها. اذ أن أهل الجزيرة السورية يعرفون دور الأكراد في دعم داعش وفي تعريض حياتهم وحياة أبناءهم للخطر والتسبب في تهجيرهم في الخمس سنوات الأخيرة من الحرب على سوريا. وحتى أن البيان الذي أصدرته العشائر السورية وبكل جرأة في ظل احتلال القوات الأميركية والفرنسية والأساويش ضد جميع القوات الغريبة في الجزيرة ليفضح مستوى الغضب الذي يشعر به هؤلاء تجاه ما آلت إليه الأمور. وبالتالي فمن الطبيعي أن يشعر الأكراد بالخطر على مشروعهم.
المتضرر الثاني من الخروج الأميركي هم الفرنسيون. الذين أرسلو في البداية قوة صغيرة من أجل حماية معمل لافارج للإسمنت في شمال شرق سوريا. ثم عززت فرنسا قواتها في شمال سوريا في نيسان الماضي وبحسب المعطيات فهي من يدير المعارك في “حقل العمر”، أكبر الحقول النفطية في شرق الفرات. حيث تتكتم على وجود واستخدام قواتها الخاصة، ونشرها هناك، بحسب “جريدة النهار”، 900 مستشار عسكري وقوات خاصة وعناصر في مدفعية مشاة البحرية (المارينز) في شمال شرق البلاد. والخروج الأميركي اليوم سوف يكشف هذه القوات وسيضع ماكرون في موقف أصعب على المستوى الداخلي، لأن هناك دعوات حقيقية من قبل رجال الأعمال الفرنسيين من أجل خروج فرنسا ليس فقط عسكرياً بل حتى من المشاركة في تصعيد الأزمة السورية والتوجه نحو الحل السياسي، وهذا ما أكده حضور وفد فرنسي يوم الأربعاء الماضي برئاسة النائب السابق تييري مارياني.
في نهاية الأمر هل سيكون اعلان ترامب فقاعة اختبار آخر مثل غيره مما سبق من أجل قراءة ردات الفعل. وعليه يمكن فهم القلق الروسي، الذي أعلنه الرئيس فلاديميير بوتين والذي قال عنه، بحسب “روسيا اليوم”، رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما بأنه يجب الحذر منه وعدم “الإسترخاء” أمام القرار الأميركي. وأن الأميركيين قد ييبتكرون حيلاً للبقاء! ولكن قرار الخروج الأميركي يعبر حتماً عن فشل السياسة الأميركية في المنطقة، وإن غداً لناظره قريب.
2018-12-21