الإبل ..!
تعبُّ النيل عبّاً .. الجاحظُ يتحدى ديكارت .. والفراهيدى يبحث عن الإيقاع
كريم عبد السلام
يحدثُ أن تظهرَ قطعانٌ من الإبل، وتحتلَّ المكانَ على امتدادِ النظَر
تتدافعُ حولى بخطواتها المنغومةِ، كأنها رياحُ خماسين، ومعها رائحةُ الصحراء والوبرِ
والبَعْرِ والسُّعالِ والرَّمَد
لا أُفكرُ فى الشياطين التى تحملها الإبلُ، ولا فى أرض الجنِّ التى تختفى فيها..
أريدُ فقط، عبورَ الشارع ذى الاتجاهين، نزولًا إلى الميدان
وعندما أصلُ إلى منتصفِ الطريق، تقترب الإبلُ ثم تتجاوزنى
وأُضطر للتوقف حتى تعبرَ، وأجدُها تواصل التدفّق..
…..
يحدثُ أحيانًا أن تكون قطعانُ الإبلِ بلا نهاية وعندما أريدُ التراجع، يكون الوقت قد فات،
نصفُ الشارع الذى عبرتُهُ يزدحم بقطعانٍ جديدةٍ، ولا أجد شيئًا أضع عليه عينىّ، كى لا أضيع..
السماءُ فارغة
ولوحاتُ الإعلانِ مطفأة
والعماراتُ العاليةُ قبيحة
والترابُ يكسو كل شىء
محاصرٌ فى مكانى، والإبلُ تخبُّ فى الاتجاهين، كأنها شلالٌ من المياه،
يمكنُ رؤيةُ بدايتها وهى تزحف باتجاه الشوارع الجانبية، لكن لا يمكنُ رؤيةُ نهايتها
أقولُ ربما تنتهى إلى المذبح
لكنَّ نظراتها المهيمنةَ، وغيابَ الرعاة والصغارَ فى القطيع، يؤكد لى أن الإبلَ دخلتِ المدينةَ لتبقى، ولا أجد أمامى، كى لا أسقطَ، إلا العودةَ للنقطة التى اكتشف فيها الفراهيدى الإيقاعَ، وأضبط نغمات الأخفافِ من حولى، أملًا أن تعود الشوارعُ إلى ما كانت عليه
مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُنْ مُسْتَفْعِ.. …
الإيقاعُ ينكسر
وفى كلِّ مرةٍ لا يكتمل البيتُ
كأنَّ الإبلَ المتدفقةَ حولى تقرأ أفكارى وتُفسدها
وعندما اعتمدتُ المُتدارَكَ بمرونته فَعْلُن فَعْلُن فَعْلُن فَعْلُن
تداخلتْ الأخفافُ وتقدّم الصغارُ بخطواتٍ مرتبكةٍ وسط القطيع المتهادى، وانكسر معها المتدارَكُ، وكأننا أمام أراجيزَ متقابلةٍ لشعراءَ فى زمن قديم
وتذكرتُ أن الفراهيدى لم يكتشفِ الإيقاعَ من هرولةِ الإبلِ وحُداءِ الرعاة، وأن مصادفةً قادته إلى سوق الصفّارين، مثلما قادتنى مصادفةٌ إلى الشارع المفضى للميدان الآن، هناك، سمع الفراهيدى طرقاتِ صَفَّار وقد انتظمتْ وتكررتْ، وحفظها فى أذنه إلى أن عاد لبيتهِ فأحضر طبلًا وعصا ليكررَ نقراتِ الصفّار، حتى لاح له بحرُ الطويل بأمواجهِ وزَبَدِه.. فَعُولُنْ مَفَاعِيلُنْ فَعُولُنْ مَفَاعِلُ
البحرُ أغرى ببحرٍ، وكلما اختلفتِ النقراتُ، ينتظم وزنٌ أنشأ منه العرب أشعارَهم، ويصيرُ بحرًا وله اسم..
أهكذا تعلم آدمُ الأسماءَ كلَّها؟
هكذا عرفنا الوافِرَ
مُفَاعَلَتُنْ مُفَاعَلَتُنْ فَعُولُن
والرَمَلَ
فَاعِلَاتُنْ فَاعِلَاتُنْ فَاعِلَاتُن
والسريعَ
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَاعِلُن
والمنسرحَ….
توقّفْ
توقّفْ وانتبه أيها المحاصَرُ بالإبل
مصادفةُ الفراهيدى قادته إلى سوق الصفّارين واكتشافِ بحورِ الشعر
فإلى أين تقودكَ مصادفتُكَ؟
قدماكَ تعبتا من الوقوف، وبدايةُ القطيع غابتْ عن نظركَ، ولم تعد ترى إلا أخفافًا تُهرع فى خطواتٍ متناثرةٍ، وأشداقًا متدليةً وشفاهًا مشقوقةً وعيونًا سوداءَ كثيفةً، ترميكَ بنظراتٍ غيرِ مبالية
……
حاولتُ أن أخترقَ القطيع وأعبرَ الشارع
بعيرٌ ضخمٌ قطعَ الطريقَ علىَّ، وهو يُرغى ويَهدر فتراجعتُ إلى مكانى
أرعبنى البعيرُ الهادرُ، أعترفُ..
لكنَّ ديكارت وسوسَ فى أذنى، وهو يضحك ضحكةً مكتومةً، بأنّ الحواسَ كاذبةٌ، وتجربتَنا يسيطر عليها شيطانٌ ماكرٌ، يستطيع خلقَ عالمٍ نتوهم أننا نعيش فيه، وأوصانى ألا أصدق تصوراتى، لأنها من صنعِ الشيطانِ المخادِع
كأنّ الإبلَ التى تحاصرنى خدعةٌ
كأنّ الشارعَ الذى أقف فى منتصفهِ خدعةٌ
وكأنّ البعيرَ الذى هاجمنى خدعةٌ
قطعانُ الإبل مازالت على امتداد البصر، تحاصرنى وأنا أجاهد حتى لا أفقدَ الوعىَ، وفى أنفى رائحةُ الصحراء والبَعْرِ والوبرِ المتطايرِ، والجاحظُ يتحدى ديكارت ويجزمُ أن الإبلَ خُلقت من أعناق الشياطين، وأن ما أراه من إبلٍ، سلالةٌ وحشيةٌ جاءت من أرض وَبَار، وأن أهلَها هلكوا مثل عادٍ وثمودَ، لكنها بَقِيَتْ حتى فشا فيها الجنُّ، وويلٌ لمن يقع تحت سطوتها من الجنون والطاعون والموتِ البطيء..
أضلّتِ الإبلُ طريقَها فى أرض الجنِّ، لتحاصرَنى وأنا أعبر الشارعَ المؤدى للميدان، أم أنّى وحدى من يراها كما يقول ديكارتُ؟
أنا أنظر إلى الإبلِ
أنظر إليها الآنَ فى وضح النهار
نجديةٌ وساحليةٌ وتهاميةٌ وسودانيةٌ وعمانيةٌ ومغربيةٌ وبشاريةٌ ومهجّنات
مجاهيمُ سوداءُ وداكنةٌ وبنيّةٌ ورمليةُ
مغاتيرُ وضحٌ وشُقحٌ وصُفرٌ وحُمرٌ وشُعلٌ
ذواتُ سنام واحد وذواتُ سنامين
جمالٌ وأجمالٌ وأَجْمُلٌ وجِمالات وجَمائلُ وجُمَالَةٌ
أبعرةٌ وأبعارٌ وأباعرُ وأباعيرُ وبُعران
نوقٌ وأنواقٌ وأيانقُ ونياقٌ وأنيُقُ
أراها تعبُّ النيلَ عَبًّا،
حتى لم يعد من النهر إلا المجرى والذكرياتُ فى القاع الطينى
………
حين كنّا أطفالًا
كان الجزارون يعقلون الجِمالَ أمام المحال، ونحن ندور حولها وهى قائمةٌ أو نائخةٌ على الأرض
ترانا بعيونٍ مظلمةٍ كثيفةِ الرموش
تلوك وتجترُّ على الدوام، متجاهلةً رائحةَ الدماء على جلباب الجزار
أحيانا ندور حول النائخةِ ونعتليها، وهى صامتةٌ لا مبالية
نتحسس الوشومَ والعلاماتِ الخضراءَ والحمراءَ والسوداءَ على أبدانها
وعندما تُحرك رقابَها فى اتجاهنا، نعدو وننظر إليها من بعيد
البعيدُ لم يعد بعيدًا
الإبلُ تحاصرنا فى دوائرَ لا تنتهى
منها القائمُ والنائخُ والغاضبُ والهادرُ والحاقدُ والمُجعجعُ والمتوحشُ والشيطانىُّ
رأيت بعيرًا يقبض على رَجلٍ من عنقه ويطرحه أرضًا ثم يبرك فوقه بقوائمه
قالوا إن الرجلَ من سلالةِ جزّارين، ومازالت رائحةُ الجمال الذبيحةِ عالقةً بأرواح العائلة، والبعيرُ أغضبته رائحةُ الدماء القديمة، ويثأر لأسلافه
فَاعِلَاتُنْ فَاعِلَاتُنْ فَاعِلَاتُ
……..
يقولون إن الشياطين كانت تائهةً فى أقطار السموات
لا تجد ما تفعله سوى الحسرةِ واللعنات
الحسرةِ والندم
الحسرةِ والتطلّع
لمن الأرضُ وجنَّاتُها التى تجرى من تحتها الأنهار
لمن الجبالُ وصحاريها
لمن الكهوفُ والمغاراتُ التى تعزف فيها الرياح
الرمالُ المتراميةُ خاليةٌ،
نحن أحقّ بسُكناها
نحن أقربُ إلى حرارتِها اللاهبة وليلِها الخامدِ ورياحِها المرتطمةِ بالجبال..
لكنّ الشهبَ الثاقبةَ والنيازكَ اشتبكتْ مع الشياطين وأسقطتها باتجاه الأرض، مضعضعةً جريحةً، تبحث عن كهوفٍ تصلح مدافنَ
ولم يكن ممكنًا مواصلةُ العيش تحت القمر الفضى والنجومِ المتلصصة إلا بهيئةٍ ترابيةٍ وحياةٍ دنيويةٍ
وتحولت الشياطينُ إلى وحوشٍ هادئةٍ بعيون سوداءَ وشفاهٍ مشقوقةٍ وذاكرةٍ حديديةٍ وحقدٍ انتقامىٍّ وقدرةٍ على الصبرِ والعطش
وظهرتْ الإبلُ فى الصحراء الخالية، وانفتح العالمُ من جديد دون ُشهبٍ ساقطةٍ ولا نيازكَ مطارِدة
وأصبحتِ الصحراءُ مهادًا والشروقُ منزلًا والماءُ مقصدًا والذهبُ وفيرًا والإيقاعُ فى أفواه الحُداةِ
ومع الإيقاع تحت ضوء القمر، انقادتِ الشياطين لراعٍ شيخٍ، ظنَّ أنه وجدها بالمصادفة، حتى أوصلها إلى عشيرته، ليصبح جسرًا بين الشياطين وإنسانِ الصحراء
واختلط الوسواسُ والمزمارُ والغناءُ بالرّغاءِ والهديرِ والهمهمةِ والحنينِ والجرجرةِ والرزيزِ والكتيتِ والأديدِ والهقمِ والضبحِ والإرزام
وخلال آلاف الليالى والنهاراتِ اللاهبة، اندمجتِ الأرواحُ والذاكراتُ والأحلامُ، حتى لم يعد ممكنًا إدراكُ قصةِ الراعى الشيخ وقبيلةِ الشياطين المتحولة
وأصبحتْ الإبلُ سفنَ الصحراء والمطايا الكرامَ والأملَ فى الماء والمنقذَ من الضلال والشافىَ من الأسقام والملاذَ فى سنوات المجاعة، وظهر امرؤ القيس منشدًا فى سعادةٍ:
تَقولُ وَقَد مالَ الغَبيطُ بِنا مَعًا .. عَقَرتَ بَعيرى يا اِمرَأَ القَيسِ فَاِنزلِ
فَقُلتُ لَها سيرى وَأَرخى زِمامَهُ.. وَلا تُبعِدينى مِن جَناكِ المُعَلَّلِ.
*مختارات من ديوان “أيها القارئُ السعيد..ماذا فعلتْ الحملانُ بالذئاب”
2025-04-28