أميلكار كابرال: “أن نفكّر لنُحسن الفعل”!
سعيد محمد*
في لحظةٍ انكفاء عالميةٍ تتداخل فيها عربدة الإمبراطورية بانحسار الوعي التحرري، تأتي إلينا كلمات أميلكار كابرال، المفكر الثوري وقائد حركة تحرير غينيا بيساو والرأس الأخضر، كما استعادة للروح. دار 1804 للكتب جمعت ولأول مرّة باللغة الإنجليزية محاضرات كان ألقاها القائد الماركسيّ على كوادر الحركة في مجلدين عنونتهما ب “”Think to Better Act – أي بالعربيّة: “أن نفكّر لنُحسن الفعل” –، لتعيد إحياء فكره والممارسة لا بوصفها ميراثاً نضالياً ثميناً لأفريقيا وشعوب الجنوب فحسب، بل دليلاً معاصراً لإعادة تخيّل السياسة، والتحرر، والهوية.
وُلد كابرال عام 1924 في الرأس الأخضر، وتخرج مهندساً زراعياً من البرتغال، على أنّه لم يكتفِ بالتحليل العلمي للتربة والمناخ، بل مدّ بصره إلى البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أبقت شعوب غرب إفريقيا رهينة الاستعمار البرتغالي. في فلسفته، لم تكن “التنمية” ممكنة إلا بتحرر الأرض والإنسان كليهما سوية.
أسس عام 1956 الحزب الإفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر (PAIGC)، وقاد مع رفاقه واحدة من أنجح حركات التحرر خلال القرن العشرين، انتهت باستقلال غينيا بيساو عام 1973، أي قبل أشهر فقط من اغتياله.
بعكس كثير من قادة حركات التحرر في عصره، لم يكن كابرال خطيباً شعبوياً بل مفكراً معنياً أساساً بنقل النظريّة إلى حيز الممارسة على الأرض. كان يؤمن بأن الثورة ليست فعلاً مسلحاً فحسب، بل تحوّل في الوعي، ومشروع إنساني ذي أبعاد أخلاقية وثقافية واقتصادية لأن “الناس لا يُقاتلون من أجل أفكار، بل من أجل تحسين ظروف عيشهم، من أجل العيش بسلام وكرامة”. لكنّه في الوقت ذاته، كان يرى أن الأفكار ضرورية لتوجيه الفعل، ومن هنا شعاره الثوري “فكّر لتحسن الفعل” الذي عُنون به المجلدان.
خصص المجلد الأول لخطابات ألقاها كابرال خلال مؤتمر سري عام 1969 لتدريب كوادر حزبه، وفيها يُعيد تعريف “الوحدة” لا بوصفها إجماعاً فارغاً، بل انضباطاً طوعياً بين رفاق يختلفون – بحكم اختلاف البشر – لكنهم يتحركون في اتجاه تحرري مشترك، ويدعو رفاقه إلى النظر في الواقع المحلي بأدوات تحليلية دقيقة قبل استيراد أي نموذج جاهز، مشدداً على أن الثورة لا تُبنى على الفكر الرغائبي أو الأيديولوجيات المجردة، بل على الواقع الماديّ بكل تناقضاته، والصدق مع الشعب.
أما المجلد الثاني فيتضمن خطابات نادرة يطرح فيها كابرال تساؤلات حول علاقة التحرر بالثقافة: “هل نحرر الناس، أم نعيد إنتاج نفس بنى الاضطهاد، ولكن بأيدينا؟”، ويقدّم مراجعات نقدية لخطابات ماركس، لينين، ماو، محاولاً تفكيكها وتحويلها إلى أدوات تحليل تلائم سياق غرب إفريقيا، لا تفرض عليه.
وهناك في هذا المجلد مقاطع حوارية غاية في الحيوية والرقي الثوري بين كابرال ورفاقه، فيناقش معهم موضوعات مثل العنف الثوري، والإصلاح الزراعي، وموقع المرأة، وجدوى الأيديولوجيا، وتحديات الاستقلال الاقتصادي. في هذه الحوارات، يبدو كابرال سقراطي المنهج، يحثّ الرّفاق على التفكير النقدي ومساءلة كل طرح، بما في ذلك أفكاره الشخصية.
قاد كابرال حركة تحرر وطني قبل أكثر من نصف قرن، لكن فكره يبدو شديد الراهنية في عالم ما بعد الاستعمار الظاهري، حيث رحلت الجيوش وتكرست الهيمنة الثقافية والاقتصادية، فعنده أن التحرر لا ينتهي بطرد المُستعمِر، بل بإعادة بناء الإنسان – تماماً حيث فشلنا كعرب -، ويشدد على تشابك السياسي بالثقافي، مؤكداً أن الثقافة المُقاوِمة سلاح استراتيجي، ويعيد تعريف القيادة بوصفها خدمة جماعية واعية، وليست سلطة فوقية.
“أن نفكّر لتحسن الفعل” مادة إستراتيجيا وجودية في وجه الفوضى، والعشوائية، والارتجال، والتبعية. وكأني بعقله الجميل يوصى كل ثائر: قبل أن تُطلق الرصاص أو ترفع الشعار… فكر. افهم. تعمّق. لأن الفعل الأعمى كفيل بهزيمة الثورة حتى قبل أن تولد.
—————————
Think to Better Act: Speeches at the 1969 PAIGC Cadre Seminar, Amilcar Cabral, Volumes 1 & 2, 1804 Books, New York, 2025.
– لندن
2025-07-06