أفغانستان، بعد ثلاث سنوات من خروج جيش الإحتلال الأمريكي!
الطاهر المعز
أظهر زعماء حركة طالبان الجديدة التي تحكم أفغانستان منذ سنة 2021، بعد هزيمة القوات الأمريكية، إنها حركة رجعية سياسيا وإيديولوجيا واجتماعيا، وإنها في نفس الوقت تنتهج سياسة براغماتية في المجال الإقتصادي، وتتقن المزج بين التذكير بتاريخ وتراث أفغانستان، مع عدم إغفال الجانب الإقتصادي، وعلى سبيل المثال تُعتَبر مدينة “هرات”، غربي أفغانستان (عاصمة الإمبراطورية التّيْمورية)، ثالث أكبر مدينة في البلاد، مركزا حضاريا ودينيا واقتصاديا، ومن أكبر مواقع إنتاج الزعفران في العالم، وموقعا هاما لإنتاج المنسوجات، رغم الزلازل التي هدّمت المدينة عدة مرات، وتحاول حركة طالبان الحاكمة المُحافظة على هذه الجوانب، لأن المدينة تُعتبر واجهة للبلاد، فقد صنفتها منظمة اليونسكو سنة 2021، ضمن مواقع التراث العالمي؛ بفضل “تاريخها الحافل – حيث تأسست خلال القرن الرابع قبل الميلاد – ومآذنها وقلعتها ومعظم المعالم التي يعود تاريخ بنائها إلى القرن الخامس عشر ميلادي، وتقع المدينة على مفترق طرق التجارة الإقليمية، نحو سمرقند وبُخارى شمالا، وإيران جنوبا والصين شرقًا ونيسابور غربًا، وكانت بمثابة مُلْتَقَى طرق التجارة بين البحر الأبيض المتوسط، والهند والصّين، ولذلك بقيت مُلتقى لشعوب آسيا الوسطى، ورمزًا للربط بين الماضي والحاضر…
رغم 20 عاما من الإحتلال الأمريكي، زاد ارتباط اقتصاد أفغانستان ببلدان آسيا الوسطى المُجاورة، وأصبحت البلاد مركزًا للعديد من المشاريع الإقليمية الهامة، وفق تقرير نشره موقع “أويل برايس” الأميركي، منتصف شهر آذار/مارس 2024، وأشار التقرير إلى المحادثات التي أجراها وزير الخارجية الأفغاني، خلال شهر شباط/فبراير 2024، مع حكومة تركمانستان لاستكمال بناء خط أنابيب يضخ نحو 33 مليار متر مُكعّب من الغاز الطبيعي بين تركمانستان والهند، مرورًا بأفغانستان ( التي تحصل على 5% من التدفق السنوي) وباكستان، بطول 1600 كيلومتر، كما ناقش الطّرفان إنشاء خط نقل الطاقة بين تركمانستان وأفغانستان وباكستان، بعد شراء أفغانستان نحو 1,8 مليار كيلوات/ساعة من الطاقة من تركمانستان سنة 2024، وشراء كميات أخرى من طاجيكستان، قبل استكمال خطوط نقل الطاقة على المستوى الإقليمي، وبعد تسديد حكومة أفغانستان المبالغ المستحقة للطاقة، والتي تتراوح بين 40 إلى 50 مليون دولار، واستكمال بناء خطوط السكك الحديدية من تركمانستان إلى أفغانستان بدعم قَطَرِي، ويبلغ طول الخط 573 كيلومترا وسوف تشكل السكة الحديدية دعما للتجارة الإقليمية، وذلك رغم “العقوبات” التي لا تزال الولايات المتحدة تفرضها على أفغانستان، وأجّلت هذه “العقوبات” بعض المشارع المُهِمّة في قطاع الطاقة، مثل مشروع “كاسا-1000” الذي يبلغ طوله 1300 كليومترا، ويُتوقّع أن يوفر 1300 ميغاوات من الكهرباء الفائضة المنتجة بالطاقة الكهرومائية من قيرغيزستان وطاجيكستان ( التي تحظر أي منظمة إسلامية على أراضيها) إلى باكستان وأفغانستان خلال فصل الصّيْف، وتُقدّر قيمة المشروع – الذي عرقلتها العقوبات الأمريكية – بنحو 1,2 مليار دولارا، ويمكن اعتبار مجمل هذه المباحثات والصفقات اندماجًا لنظام طالبان الذي أصبح جيرانه يعتبرونه شريكًا موثوقا في المشاريع الإقليمية والدّولية، خصوصًا بعد نجاح حكومة طالبان في إضعاف حرَكَتَيْ داعش ( الدّولة الإسلامية) و القاعدة ( الحليف السابق) مما ساهم في تطبيع علاقات أفغانستان مع إيران وباكستان وأوزبكستان وتركمانستان، ومجمل جمهوريات آسيا الوسطى، والتنسيق معها لحل قضايا الطاقة والنقل والمياه في المنطقة…
عَلّقت صحيفة “لوموند” الفرنسية ( 13/09/2024) على زيارة زيارة رئيس وزراء أوزبكستان عبد الله أريبوف إلى كابول (عاصمة أفغانستان) يوم 18 آب/أغسطس 2024، وتُعتبر تلك الزيارة حدثًا مهمًا لنظام طالبان الذي بقيت علاقاته الدّبلوماسية محدودة، رغم زيادة التنسيق الإقتصادي، ونشرت الصحيفة تقريرا يوم 13/09/2024 عن “تطبيع” العلاقات التجارية بين دول آسيا الوسطى وأفغانستان، بقيادة أوزبكستان وكازاخستان اللّتَيْن بدأتَا التقارب مع حكومة “طالبان” لدواعي أمْنِيّة واقتصادية، ووقّعت حكومتا أوزبكستان وأفغانستان اتفاقيات تجارية واستثمارية بقيمة 2,5 مليار دولارا، ويُتوقّع زيادة حجم التبادل التجاري إلى 3 مليارات دولار في المستقبل المَنْظُور، فيما تريد حكومة أفغانستان تمكينها من استيراد الوقود والمنتجات الزراعية ومواد البناء والكهرباء من آسيا الوسطى التي تمثل أوزبكستان بوابتها الرئيسية، وتأمل حكومة أفغانستان تجاوز الخلاف الذي حصل بشأن مسألة المياه، إذْ أتَمّت أفغانستان بناء قناة قوش تيبه خلال الربع الثاني من سنة 2023 التي تُحَوِّلُ نحو 20% من مياه نهر “أمو داريا” فيما تُعاني أوزبكستان وتركمانستان من انخفاض مستوى المياه في هذا النهر، ومن انخفاض مياه ريّ الأراضي الزراعية في كلا البلدين.
تمكنت حكومة طالبان من خفض التوتر مع الجيران، من خلال تنمية المبادلات التجارية مع هذه الدول، وأدّت هذه الخطة إلى شطب كازاخستان – أكبر دول آسيا الوسطى – خلال شهر كانون الأول/ديسمبر 2023، طالبان من قائمتها للمنظمات الإرهابية، تلتها قرغيزستان يوم 05 أيلول/سبتمبر 2024، لدواعي اقتصادية وتجارية…
أَقَرَّ تقرير البنك العالمي تقريرًا عن اقتصاد أفغانستان، الصّادر خلال شر آب/أغسطس 2024، تَحَسُّنَ اقتصاد أفغانستان ووضع حد لهروب رؤوس الأموال (حوالي خمس مليارات دولارا سنويا، قبل 2021) بعد ثلاث سنوات من حكم طالبان، “رغم الصعوبات”، وذكر تقرير البنك العالمي “تَوَقُّفَ التراجع الاقتصادي سنة 2023، مع وجود علامات واضحة على الاستقرار وبعض التعافي إثر انخفاض مستوى الفساد والرشوة والتهريب، ومع وجود بعض التّحسّن الطّفيف في مستوى عيش الأُسَر، مع استئناف العمليات المصرفية واستقرار سعر الصرف وانخفاض مستوى التضخم وارتفاع الصادرات، وعودة العديد من الشركات إلى نسق العمل الطبيعي، فيما ارتفعت قيمة تحويلات المهاجرين من 700 مليون دولارا سنة 2021 إلى أكثر من مليار دولارا سنة 2023″، وفق التقرير الذي أشار إلى افتقار البلاد إلى”محركات النمو المستدام ( في ظل) ارتفاع حجم العجز التجاري وارتفاع معدلات الفقر، وارتفاع مستوى انعدام الأمن الغذائي، رغم انخفاض أسعار السلع الغذائية بنسبة 14,4% على أساس سنوي، وزيادة القيود المفروضة على المشاركة الاقتصادية للمرأة…”، ولم يُشِر تقرير البنك العالمي إلى تجميد حوالي سبعة مليارات دولارا من أصول أفغانستان من قبل الولايات المتحدة ولا إلى تقليص “المساعدات” الدولية التي كانت تُقدّر بنحو أربعين مليون دولارا شهريا، وتمكنت حكومة طالبان من زيادة إيرادات الضرائب وصادرات المعادن، ومن زيادة حجم التجارة مع إيران والهند (بعد قُيُود باكستان على التجارة مع أفغانستان) والإمارات والصين، مع الإشارة إلى زيادة استثمارات حكومة طالبان في الصناعة بهدف رَفْع مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي في المستقبل القريب فضلا عن الإستثمار في قِطَاعَيْ الزراعة ( البُنْية التحتية للرَّي وتأمين حيازة الأراضي…) واستخراج المعادن، ما قد يُمَكِّنُ من التنمية واستحداث الوظائف والحد من الفقر…
استوعبت قيادة حركة طالبان قوانين النظام الرأسمالي، ما يُؤَشِّرُ إلى عدم تناقض الإسلام السياسي (والدّين السياسي بشكل عام) مع الرأسمالية وما تعنيه من استغلال واضطهاد، وتُمثل النساء الجانب الظّاهر الذي تُركّز عليه تقارير المنظمات الدّولية ( لكنه لا يمثل في الواقع سوى أحد مظاهر رجعية الدّين السياسي) فقد أصْدَرت حكومة طالبان منذ أيلول/سبتمبر 2021 وحتى آب/أغسطس 2024 أكثر من 140 مرسومًا، منها 90 تقيّد حركة المرأة وعملها في الحكومة والقطاع العام، وإغلاق الشركات التي تديرها نساء وتحريم قاعات الحلاقة والتجميل في المدن، بينما يُقدّر عدد الطبيبات والمُمرّضات بنحو عشرة آلاف والمُعَلّمات بنحو 68 ألف من بينهن 800 من المُشرفات والباحثات في الجامعات ومؤسسات البحث العلمي…
تأقلمت حركة طالبان مع الوضع الدّولي، وتحاشت تكرار ممارساتها (أو غيرت شَكْل ممارساتها) التي كانت سائدة قبل الاحتلال الأميركي سنة 2001، وطغت البراغماتية على سياساتها الدّاخلية وعلى علاقاتها الدبلوماسية والتجارية والإقتصادية مع الخارج وخصوصًا مع الجيران رغم الصعوبات التي تلاقيها مع باكستان التي رَحّلت نحو 400 ألف أفغاني ( إيران وباكستان والهند والصّين) ومع محيطها الطبيعي في آسيا الوسطى ( الجمهوريات السوفييتية السابقة) ورغم انخفاض صادرات البلاد بنسبة 0,5% خلال تسعة أشهر من سنة 2023 إلى 1,3 مليار دولارا بفعل انخفاض أسعار الفحم، واغتنمت الحكومة فُرص الإستثمارات الخارجية في مجال المعادن والطاقة والبنية التحتية، بالتوازي مع تَرْشيد التحصيل الجبائي ومقاومة زراعة الأفيون – الذي كان الإحتلال الأمريكي يُشجّعه – والرشوة المفضوحة والفساد الظّاهر، وتمكنت من زيادة الصادرات الزراعية والمنسوجات لتعويض الدّعم الخارجي الذي بلغ ثلاث مليارات دولارا سنة 2022 و أقل من 1,5 مليار دولارا سنة 2023…
تحتوي أفغانستان على العديد من المعادن وأحصى المهندسون السوفييت، خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين، ما لا يقل عن 1400 من رواسب المعادن من الأحجار الكريمة والنحاس والحديد والذهب، وقدّر خبراء الإحتلال الأميركي هذه الثروات بما لا يقل عن ثلاث تريليونات دولار، وأدركت الصين ذلك فسارعت إلى عقد اتفاقيات عديدة، منذ خروج الجيش الأمريكي، سنة 2021، خصوصًا لاستغلال الليثيوم الذي تُقدر قيمة حجمه في أفغانستان بما لا يقل عن تريليون دولار، وهو ضروري في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، وعمومًا تعدُّ الاستثمارات الصينية هي الأهم في أفغانستان، في مشاريع المعادن والمحروقات ( النفط بشمال أفغانستان) والبُنْيَة التحتية وتوليد الكهرباء وتصنيع الإسمنت والرعاية الصحية.
خاتمة:
نشرت وكالة الصحافة الفرنسية يوم الثلاثاء 24 أيلول/سبتمبر 2024 خبرًا عن بعض الخطوات التي تقوم بها حكومة طالبان للتقارب مع مجموعة بريكس، قبل بضعة أسابيع من موعد قمة المجموعة في روسيا (من 22 إلى 24 تشرين الأول/اكتوبر 2024)، حيث أعلنت حكومة روسيا ( أيار/مايو 2024) احتمال شطب طالبان من “قائمة المنظمات الإرهابية”، قبل إعلان الرئيس الروسي (تموز/يوليو 2024) أنه يعتبر حركة طالبان “حليفة في الحرب على الإرهاب”، ثم راجت أخبار عن احتمال دعوة مُمثّلين عن حكومة أفغانستان إلى روسيا لإجراء محادثات بين أعْداء الأمس، وبَرَّرَ ناطق باسم الحكومة الأفغانية هذا التقارب المنشود مع مجموعة بريكس بقوله خلال ندوة صحفية: “إن الدول ذات الموارد الكبيرة وأكبر الاقتصادات في العالم مرتبطة بمجموعة بريكس وخصوصا روسيا والهند والصين وهم أعضاء رئيسيون”، وكانت مجموعة بريكس قد وافقت على قبول ست أعضاء جدد ولذلك تحاول أفغانستان التي كثفت علاقاتها الإقتصادية مع جيرانها – وخصوصًا بلدان آسيا الوُسطى والصين والهند وروسيا – اغتنام الفرصة لفك عزلتها، بعد ثلاث سنوات من انسحاب الجيش الأمريكي وعودة حركة طالبان إلى السلطة، ونشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية تقريرًا يوم 13 أيلول/سبتمبر 2024 عن التعاون الإقتصادي والأمني بين حكومة أفغانستان وحكومات دول آسيا الوسطى، بقيادة كازاخستان وأوزبكستان التي زار رئيس وزرائها عبد الله أريبوف العاصمة الأفغانية “كابل” يوم 18 آب/أغسطس2024، مما يُعْتَبَرُ اعترافًا بحكومة طالبان وتطبيعًا للعلاقات معها…
يبدو إن حركة طالبان استخلصت بعض الدّروس من فترة حكمها قبل الإحتلال الأمريكي، وعملت على التقارب مع الدّول القوية اقتصاديا في هذه المنطقة من آسيا (الصين والهند) ومع الجيران الآخرين (دول آسيا الوُسطى) وعلى المستوى الدّاخلي، استمرّ الإضطهاد والقَمع، رغم تغيير الشكل وَالوَتِيرَة، غير إن حكومة طالبان تمكّنت من تفادي انهيار الإقتصاد وتحقيق بعض الإستقرار في سعر الصّرف والتّضخم مع ارتفاع حجم وقيمة الصادرات، ما مكّن من استمرار عمل المنظومة المصرفية والتحويلات ومن عودة الشركات إلى الإستثمار، وفق تقرير البنك العالمي بعنوان “مراقبة اقتصاد أفغانستان” ( آب/أغسطس 2024) غير إن الوضع المعيشي لمعظم السكان لا يزال هشًّا حيث لا يزال انعدام الأمن الغذائي منتشرا، ولا تزال نسبة الفقر مرتفعة، ويستمر إقصاء النساء من العديد من الوظائف، فيما لا تزال مُقومات النّمو المُسْتَدام – ناهيك عن التّنمية – غير متوفرة…
لا تزال حكومة الإسلام السياسي المتشدّد في أفغانستان تُركّز جهودها على القمع بذريعة تحقيق الأمن الدّاخلي، وعلى قمع التّقدُّميين والمُثقفين وأي صوت مُعارض، وقمع النساء ومنع الإناث من الوظائف وعرقلة التحاق البنات بالمدارس، ولذلك فهي تواجه هجرة الأطباء والمهندسين والمعلمين، مما يعوق التنمية الشاملة، خصوصًا مع إهمال أو عدم معالجة مشكلة الفقر، فالبلاد تمتلك أحد أعلى معدلات الفقر في العالم، ولن ينخفض مستوى الفقر بإقصاء النساء من العمل ومن التعليم، أو بقمع الشباب الذين تزداد رغبتهم في مغادرة البلاد…
2024-09-27