أصابع الفتنة الأميركية!
أحمد فؤاد
من كوع الكحالة إلى مخيم عين الحلوة، ومن بيروت إلى قانا، ومن الدم اللبناني إلى الدم الفلسطيني، يمكننا أن نعدد من الجرائم ألفًا، ومن المجرمين مائة على الأقل، لكن الحقيقة الوحيدة الثابتة في فضاء لبنان –والوطن العربي كله- أن كل رصاصة أميركية، وأن واشنطن تقف مباشرة وبوضوح سافر خلف كل مجزرة، وأن حليفتها “إسرائيل” هي رأس كل فتنة مرت بهذا البلد المقاوم، العصي على الكسر.
القراءة المنطقية لواقع الحال في المنطقة، يقول إننا ذاهبون إلى حرب، والدافع الأول لها هو أن الكيان الصهيوني خائف، لأسباب أبرزها معرفته بقوة وقدرة حزب الله، وتحول حلم المحيط العربي القادر على ابتلاع الكيان إلى واقع ممثل في محور المقاومة، وقبل أي شيء آخر، أن هذا المحور يرفع شعار التحرير لا التعايش، والحل الجذري لا أنصاف الحلول، يرفض جملة وتفصيلًا هذا العصر الصهيوني والأميركي، ولديه من الوسائل ما يحول رفضه المبدئي إلى فعل، يقف على أرجل ثابتة.
إن ضرورة الحديث عن دور الولايات المتحدة فيما جرى، ويجري، ليس لتبرئة طرف داخلي ما، أو تعبئة لقلوب أو جبرًا لخاطر، لكنها حتمية تفرضها فكرة البحث عن “صاحب المصلحة” من تفجير الوضع اللبناني، والدخول منها إلى أية مناقشة حقيقية واعية، والبحث من ورائها عن الجذور والأهداف، وهو حديث يسمح برؤية شاملة، وفهم واضح وكامل، بحيث يكون مقدمة تعزز رد فعل مطلوب، اليوم بالذات، أو تسند فعلًا، في أي وقت.
والذاكرة الوطنية للشعوب، تاريخها القريب، يمثل في بعض الأحيان حافزًا جبارًا للفعل الخلّاق الخارج عن كل مألوف، وفي أحيان أخرى هو عبء وقيد ثقيل على الخطوات والأقدام، وفي حالة ذاكرتنا العربية مع الولايات المتحدة الأميركية فإن العنصرين حاضرين، ويكملهما تجارب مؤلمة وآثار ندوب وجروح عديدة، مفتوحة ونازفة، ومواضع كي في كل أنحاء الجسد، بحيث لم يبق هناك موضع عربي إلا وطالته الأنياب المسمومة والسهام والخناجر الأميركية.
إن البحث عن الولايات المتحدة، اليوم، هو بحث عن المجرم الحقيقي والأول في كل مصيبة ووراء كل كارثة وطنية، وإذا كان ما يجري في لبنان صورة ضمن مشهد أوسع تتابع أحداثه بطول الوطن العربي وعرضه، فمن الأجدر أن نلقي نظرة على الوضع العالمي كله، كما يبدو بعيون وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، الذي ورغم ابتعاده عن قيود الوظائف الرسمية وحدودها وأعبائها، إلا أنه لا يزال أحد أهم صناع السياسة الأميركية ومخططيها ومنظريها، وظهر دوره الكبير قبل أيام في زيارته للصين، واستقبال الرئيس الصيني له، في محاولة على ما يبدو لتهدئة بعض الجبهات الأميركية المشتعلة.
يقول الشيطان الأميركي “كيسنجر” في كتابه المعنون “النظام العالمي.. تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ”، إن النظام العالمي بشكله المعاصر نشأ قبل 4 قرون في أوروبا، عقب صلح وستفاليا، وأصبح هذا النظام قادرًا على وضع قواعد لـ “ضبط سلوك” الدول، وبمرور القرون انتقل مركز ثقل هذا النظام، وبتأثيرات ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى الولايات المتحدة، بقوتها وقدراتها الهائلة، والتي لم تصبهما أية أضرار مع الصراع الكوكبي الهائل، وتجبر المهزومين على العودة إلى “الأسرة الدولية”، تحت القيادة الأميركية بالطبع، وبالتالي فإنه من اللازم العمل على تأكيد هذه القيادة في مختلف بقاع الأرض وعبر المحيطات.
لكي يحقق “كيسنجر” الاستقرار للنظام العالمي الضامن لهيمنة الولايات المتحدة، ولأطول طريقة ممكنة، صاغ ما يمكن اعتباره سياسة الشيطان، بمزج 3 أدوات تقوم عليها السياسة الخارجية لواشنطن، في ظل وجود قطب كبير آخر على قمة العالم، وأنظمة تحررية عديدة ومنتشرة بطول العالم وعرضه قد خرجت من نير الاستعمار التقليدي، وترفض القبول بالخضوع للأميركي والتسليم الكامل له، هذا المزيج هو دبلوماسية الإغواء، سياسة التخويف، والحرب المحدودة، حتى لو لم تكن ترفع علمًا أميركيًا.
ولب تركيز “كيسنجر” في كتابه، وحتى محاضراته، كان يكمن في ضرورة أن تمتلك الولايات المتحدة الأدوات الفاعلة في كل بقعة من بقاع الأرض، وأن توفر لها الدعم والتسليح والتغطية الدائمين، وأن على واشنطن أن تتأكد أنها تملك أطرافًا محلية قوية وموثوقة في كل منطقة من العالم، كسوط مستعد في كل لحظة أن يهوي على أي عقل يفكر في أن يرفع رأسه بعد حد معين، وهي ذاتها الفكرة التي استلهمها غيره حين كتب عن نهاية التاريخ.
لا جدال في أن ما يشهده لبنان اليوم هو صورة لهذا السيناريو الذي وضعه الأميركي، ويسير عليه، فالكيان الصهيوني وبقاءه وضمان أمنه هو مصلحة أولى لواشنطن، لا مجال فيها للتراجع أو التنازل، وواشنطن تريد بطريقتها المجربة الناجحة تهيئة الوضع لعمل عسكري صهيوني واسع النطاق والمدى، يستهدف أول ما يستهدف إضعاف أو كسر حزب الله، لا قدر الله، وإعادة عقارب الساعة للوراء فيما يخص المنطقة العربية ككل، بما يضمن استمرارها في مجال الهيمنة الأميركية، وإخضاع أنظمتها لحراسة الكلب الصهيوني الشرس.
..
قبل أيام قليلة، قال آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي، خلال استقباله قوة المجموعة البحرية 86ـ التابعة للجيش الإيراني، أنه: “لو استطاعت القوى العظمى، ما توانت عن أن تسجل المحيطات باسمها أيضًا”، “النهب والاستئثار بالمصالح البشرية جزء من خصال أميركا”، هذا الخطاب الملهم من القائد يوضح إلى أي مدى قد تبلغ الولايات المتحدة للاستمرار في نهب العالم وإخضاعه، وضمان استمرار موارده وثرواته وإمكاناته إلى شرايينها، ليس هناك حد معين للجرائم الأميركية، أو لرغباتها في إشعال الفتن وإذكاء العداوات والحروب الداخلية.
2023-08-13