أساطيل وقواعد الكومبارس الأمريكي تحت النيران!
توفيق سلاّم
يُشكّل البحر الأحمر محورًا استراتيجيًا حاسمًا في الصراع الدولي، إذ يمثل أحد أهم الممرات البحرية للتجارة العالمية، خاصة فيما يتعلق بإمدادات الطاقة والسلع الاستراتيجية. منذ تصاعد التوترات الإقليمية مع اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، تحوّل البحر الأحمر إلى ساحة مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وبين اليمن كقوة إقليمية تسعى لكسر الهيمنة الأمريكية على الممرات البحرية، وعدم السماح بمرور السفن البحرية المتجهة إلى الموانئ الفلسطينية المحتلة من جهة أخرى.
معادلة الردع
لم يكن استهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر مجرد خطوة تكتيكية، بل كان جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى فرض معادلة ردع جديدة ضد إسرائيل وحلفائها، وتوسيع نطاق الصراع إلى أبعاده الاقتصادية والتجارية. فالولايات المتحدة، التي رأت في هذا التهديد خطرًا استراتيجيًا على سيطرتها البحرية، سعت إلى تشكيل التحالف الدولي “حارس الازدهار”، والقيام بشن هجمات جوية لضرب القدرات اليمنية، لفك الحصار عن السفن المتجهة إلى الكيان الصهيوني. غير أن هذا التحالف فشل عمليًا في تحقيق أهدافه، إذ واجه تحديات كبيرة بسبب الضربات المستمرة التي تستهدف السفن الحربية والتجارية المتجهة إلى إسرائيل، مما دفع شركات الشحن العالمية إلى تجنب المرور عبر البحر الأحمر، وغيرت مسارها عبر طريق رأس الرجاء الصالح الأمر الذي أدى إلى ارتفاع تكاليف النقل البحري عالميًا.
العدوان على اليمن
تتبنى واشنطن استراتيجيات متعددة للضغط على اليمن، يتصدرها الحصار الاقتصادي، ومحاولة خنق النظام المصرفي عبر نقل البنوك من صنعاء إلى عدن، مما يهدف إلى خلق أزمة سيولة خانقة، وتعزيز الانقسام المالي داخل البلاد. هذه الإجراءات ليست منعزلة عن السياق الإقليمي، بل تأتي في إطار محاولة واشنطن وحلفائها تحييد الدور اليمني في دعم ومساندة الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، باستهداف العمق الإسرائيلي ومصالحه الحيوية، بالتزامن مع العمليات البحرية، وهو الأمر الذي يشكل تهديدًا فعليًا للمصالح الإسرائيلية والغربية في المنطقة.
قرار إدارة ترامب السابق بتصنيف “أنصار الله” منظمة إرهابية لم يكن مجرد خطوة رمزية، بل كان حجر الأساس لاستراتيجية أوسع تهدف إلى تجريم أي دعم لحركة المقاومة، ومنع أي محاولات لمواجهة المشروع الصهيوني، سواء من اليمن أو أي جهة أخرى في الإقليم. غير أن هذا القرار، الذي أعادت إدارة بايدن النظر فيه جزئيًا، أثبت فشله في ردع العمليات ضد السفن الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية، ما دفع واشنطن إلى البحث عن وسائل اقتصادية أكثر تأثيرًا، مثل تجميد الأصول المالية ومنع التحويلات النقدية عبر خدمة “السويفت”، لتقويض قدرة صنعاء على الاستمرار في دعم ومساندة غزة وتهديد المصالح الغربية. ويأتي ذلك وسط مخاوف من فرض عقوبات أمريكية على البنوك الواقعة تحت سلطة صنعاء، ضمن مساعي واشنطن لخنق حكومة صنعاء ماليًا، وسط الصراع المحتدم بين الجانبين.
وتبرز هذه التطورات مع استمرار العدوان الأمريكي- الصهيوني على اليمن وسط أزمة مالية حادة غير مسبوقة يعاني منها البلد، ووسط واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية والاقتصادية بالعالم.
لكن مثل هذه الإجراءات في ظل التعقيدات الكبيرة التي تشهدها الأزمة اليمنية، ثمة من يرى صعوبات في مسألة تطبيق نقل المقرات الرئيسة للبنوك إلى عدن.
وفي هذا السياق، يقول الباحث الاقتصادي المقيم في صنعاء رشيد الحداد إن الحديث عن نقل البنوك لا يزال يأتي في إطار التوظيف السياسي والاقتصادي لقرار التصنيف الأمريكي وذلك لعدة جوانب: البنك المركزي في عدن ذكر في بيانه أن التعامل جرى عبر رسالة خطية من البنوك، والمتعارف عليه أن البنوك الرسمية والحكومية يتم التواصل معها بشكل رسمي، كما أن بنوك صنعاء لم تؤكد هذا الأمر.
نقل مراكز البنوك في الوقت الحالي من المستحيل أن يحدث بسبب الانفلات الأمني والاقتصادي الكبير جدًا وفشل البنك المركزي في عدن بوقف انهيار العملة وغيرها في مناطق سيطرة ما تسمى بالشرعية.
البنوك التجارية لديها دين عام للحكومة يلتزم به البنك المركزي في صنعاء، وفي حال ما اتجهت ونقلت هذه الأموال إلى عدن سيحدث عملية إفلاس وسوف يتجه المودعون إلى سحب أموالهم. هذا بالإضافة، أن شبكة التمويل الأمريكية “ويسترن يونيون” و”موني غرام” وغيرها لا تزال إلى الآن تعمل تحت سيطرة حكومة صنعاء بسلاسة وبلا أي قيود أو ضغوط.
وأشار الحداد إلى أن حكومة صنعاء تسيطر على أكثر من 65% من إجمالي السوق اليمني، فضلاً عن الحركة التجارية والمودعين ونشاط البنوك الذي يتركز بنسبة 80% على المحافظات الواقعة تحت سيطرة صنعاء.
وبشأن المزايا التي قد تحصل عليها حكومة عدن من نقل البنوك إلى عدن، يقول الحداد: “لن تحصل على أي فائدة، والدليل أنها نقلت وظائف البنك المركزي اليمني من صنعاء عام 2016 وسعر صرف العملة 251 ريالاً للدولار وفشلت في إدارة الملف الاقتصادي، وبلغ الآن سعر الدولار نحو 2300 ريال”.
تواطؤ الأنظمة العربية
في ظل هذه التطورات، يبرز الدور العربي الرسمي كعامل حاسم في تحديد مسار الأحداث، إذ أن تواطؤ الأنظمة العربية مع المخططات الأمريكية والصهيونية يجعلها جزءًا من معادلة تصفية القضية الفلسطينية، سواء عبر التطبيع أو عبر دعم مشاريع التهجير القسري للفلسطينيين من غزة والضفة الغربية. لكن في المقابل، هناك نداءات واضحة من قوى المقاومة، وعلى رأسها القيادة اليمنية، للخروج من مربع الصمت العربي، واتخاذ مواقف أكثر جرأة في مواجهة المشروع الصهيوني، من خلال رفض التطبيع، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع الاحتلال، وفرض مقاطعة اقتصادية وسياسية شاملة. هذا التحرك، إن تحقق، سيشكل نقطة تحول في ميزان القوى، لأن أي إجماع عربي ضد الكيان الصهيوني سيقود إلى عزله دوليًا وإضعاف نفوذه بشكل غير مسبوق.
أزمة المحتل
الكيان الصهيوني يواجه اليوم أزمات داخلية غير مسبوقة، بدءًا من الانقسامات السياسية الحادة، مرورًا بالاحتجاجات الشعبية ضد حكومة نتنياهو، وانتهاءً بالهزائم العسكرية المتتالية أمام المقاومة، وأمام التظاهرات العالمية، وقطع بعض الدول لعلاقاتها مع المحتل. هذه الأزمات تعكس هشاشة المشروع الصهيوني الذي يعتمد أساسًا على القوة العسكرية والدعم الأمريكي والأوروبي غير المشروط. لكن، رغم هذا الدعم، فإن سياسات الإبادة الجماعية لن توفر له الحماية من التداعيات الإقليمية والدولية، خاصة في ظل تصاعد حركات المقاطعة العالمية واتساع دائرة الدول الرافضة لاستمرار الاحتلال.
الموقف العربي الذي يجب أن يرتقي اليوم إلى دعم واسناد الشعب الفلسطيني بخطوات عملية ومباشرة، برفض الاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني، والعمل على إنهاء وجوده عبر كل الوسائل المتاحة، وأولها إنهاء علاقات التطبيع، إذ أن بقاء العلاقات مع الكيان الصهيوني، هو اعتراف ضمني بمشروعية احتلاله، ومشاركته في مخطط تصفية القضية الفلسطينية.
يجب أن تتبدل المواقف العربية، عن صمتها المخزي، وتتبنى مواقف شجاعة وجسورة، برفض أي محاولات لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، واعتبار ذلك جريمة يجب مواجهتها بكافة الوسائل السياسية والاقتصادية والميدانية. وإذا ما تحولت هذه المواقف إلى خطوات عملية، بالتأكيد ستشكل تهديدًا وجوديًا للكيان الصهيوني، لأن معركته الأساسية ليست فقط عسكرية، بل هي معركة شرعية وبقاء. فالاحتلال لا يمكن أن يستمر بدون اعتراف عربي، وإذا واجه عزلة إقليمية حقيقية، فإن زواله لن يكون إلا مسألة وقت، وهو ما يتفق مع سنن التاريخ وحتميات الصراع.
حماية إسرائيل
منذ بدء العمليات العسكرية في البحر الأحمر، بات واضحًا أن واشنطن لا تتعامل مع هذه الأزمة من منظور حماية التجارة العالمية فحسب، بل تنظر إليها كجزء من استراتيجيتها لحماية إسرائيل أولًا، وإحكام قبضتها على طرق التجارة البحرية ثانيًا. فالمعركة في البحر الأحمر لم تكن مجرد استجابة لضربات محددة ضد السفن الإسرائيلية، بل تعكس صراعًا أوسع يتعلق بالسيطرة على الممرات البحرية الاستراتيجية، خاصة في ظل تصاعد التنافس الدولي على الممرات التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
لطالما سعت الولايات المتحدة إلى فرض نفوذها العسكري على أهم الممرات البحرية، بدءًا من مضيق هرمز، مرورًا بقناة السويس، وصولًا إلى باب المندب، وذلك لضمان استمرار هيمنتها على التجارة العالمية ومنع أي قوة صاعدة، سواء كانت إقليمية أو دولية، من تحدي النظام الاقتصادي الذي تفرضه. ومن هنا، جاء التصعيد الأمريكي ضد اليمن كجزء من هذه الاستراتيجية، حيث شنت واشنطن هجمات جوية واسعة النطاق لضرب البنية العسكرية اليمنية، لكن الفشل الاستخباري والاستراتيجي في تحديد الأهداف أدى إلى تكرار استهداف مواقع سبق قصفها، مما كشف عن ضعف في القدرة الأمريكية على إنهاء التهديد اليمني بفاعلية، هذا الضعف والفشل الأمريكي تجلى في الأخير في استهداف الأحياء السكنية وقتل المدنيين بصورة متعمدة؛ وتدمير مؤسسات الدولة والبنية التحتية الخدماتية والمنشآت الاقتصادية.
وبالتزامن مع تصاعد التوتر في البحر الأحمر، يواصل المحتل حربه في غزة، بدعم أمريكي غير محدود. فالحسابات الاستراتيجية لحكومة نتنياهو تركز على استكمال مشروعها التوسعي في غزة، وإبادة السكان أو تهجيرهم قسرًا إلى مصر، وهو ما يتلاقى مع الخطط الأمريكية التي تهدف إلى إعادة تشكيل الخارطة الديموغرافية في المنطقة لصالح إسرائيل. في هذا السياق، لم يكن التصعيد في البحر الأحمر مجرد أزمة منفصلة، بل امتدادًا للصراع الدائر في فلسطين، ومحاولة أمريكية-إسرائيلية لفرض واقع جيوسياسي جديد.
من الناحية الإقليمية، أدى توسع العمليات في البحر الأحمر إلى توتر متزايد بين القوى الفاعلة في المنطقة، حيث بات واضحًا أن الولايات المتحدة لا تتحرك فقط لضمان تدفق التجارة، بل لمحاولة فرض نظام أمني جديد يخدم مصالحها ومصالح حلفائها، على حساب السيادة الإقليمية للدول المطلة على البحر الأحمر. هذا الأمر يضع دولًا مثل السعودية والإمارات في موقف معقد، حيث تتداخل مصالحها الاقتصادية مع الضغوط السياسية التي تمارسها واشنطن لإجبارها على الانضمام إلى التحالفات العسكرية.
أما على المستوى الدولي، فإن التصعيد في البحر الأحمر يتزامن مع صراع أمريكي-صيني متزايد حول الهيمنة على الممرات البحرية، حيث تسعى الصين من خلال مبادرة “الحزام والطريق” إلى تأمين خطوطها التجارية عبر الاستثمار في موانئ ومناطق استراتيجية تمتد من المحيط الهندي إلى البحر الأحمر. وبالتالي، فإن ما يحدث في البحر الأحمر ليس مجرد صراع إقليمي، بل جزء من معركة كبرى حول السيطرة على طرق التجارة العالمية، في ظل نظام دولي يتجه نحو التعددية القطبية.
مواجهة أوسع
في ظل تصاعد الهجمات الأمريكية على المدن اليمنية، وعدم نجاح واشنطن في تحييد القدرات اليمنية من التهديدات البحرية التي تستهدف أساطيلها وقطعها البحرية بشكل كامل، فإن السيناريوهات القادمة قد تتجه نحو أحد الاتجاهات التالية:
– تصعيد أكبر في العمليات العسكرية، حيث قد تلجأ واشنطن إلى تكثيف هجماتها الجوية والبحرية، وربما دفع إسرائيل إلى مزيد من التدخل المباشر لضرب المصالح الاقتصادية والحيوية والبنية التحتية في اليمن.
– زيادة الضغط الاقتصادي عبر فرض عقوبات إضافية على اليمن وحلفائه الإقليميين، ومحاولة شلّ قدراتهم وجهود التنسيق والتواصل في مواجهة المستعمرين.
– تحول البحر الأحمر إلى ساحة مواجهة ممتدة، حيث قد تنخرط أطراف دولية أخرى مثل الصين وروسيا، إما لدعم أحد الأطراف بشكل غير مباشر، أو لتأمين مصالحها الاستراتيجية في الممرات البحرية.
– دعم امريكي صهيوني أوروبي لأدوات الداخل بالسلاح والمال وجيوش المرتزقة، للقيام بحرب أهلية ونشر الفوضى المجتمعية، وتقسيم اليمن إلى كانتونات سياسية جديدة، وتدمير ما تبقى من مقومات اليمن، ونهب ثرواتها وخيراتها المادية.
وأخيرًا، فإن ما يجري في البحر الأحمر ليس مجرد أزمة بحرية، بل هو انعكاس لصراع أوسع بين القوى الكبرى حول مستقبل النظام الدولي. فالولايات المتحدة، التي كانت لعقود القوة المهيمنة على البحار، تواجه اليوم تحديات متزايدة من قوى إقليمية ودولية باتت أكثر قدرة على تحدي هذه الهيمنة. وفي ظل استمرار الحرب في غزة، وتوسع العمليات العسكرية في البحر الأحمر، يبدو أن المنطقة مقبلة على مزيد من التصعيد، ما لم تتغير المعادلات الجيوسياسية التي تحكم هذا الصراع.
2025-04-02