الجمهورية السّوداء: الثّورة الأولى التي ألغت العبودية في العالم وحُكم عليها بالنّسيان لأكثر من 200 عام!
تعريب: لينا الحسيني.
لعقودٍ من الزّمن، كنت أُحيي في الاوّل من كانون الثاني/ يناير انتصار الثّورة الكوبية ولم ألحظ أنّ هاييتي انتصرت في نفس اليوم!
غضبت لأنّني لم أتمكن من إدراك المصادفة بين الملحمتين التّاريخيتين للهايتيين والكوبيين.
كيف أشرح النّسيان الذي لا يغتفر، لا سيما في حالة بلد أنجب قادةً من السّياسيين غير العاديين مثل توسان لوفرتور، وهنري كريستوف، وألكسندر بيتيون، وجان جاك ديسالين، وشارلمان بيرالتا، والرائد العظيم للثورة المناهضة للعبودية: فرانسوا ماكاندال، الذي أعدم رميًا بالرّصاص من قبل السّلطات الاستعمارية الفرنسية. وقد جعله الرّوائي الكوبي أليخو كاربنتير Alejo Carpentier أحد أبطال روايته “مملكة هذا العالم”.
كيف لم يتذكر هذه الملحمة أحدٌ في عالم التاريخ أو العلوم الاجتماعية أو الصحافة؟ لماذا، أصبحت أنا نفسي ضحيّة لهذا الإنكار العنصري؟
أعلن جان جاك ريسالين في عام 1804، استقلال هايتي من الاستعمار الفرنسي. إن تمرد العبيد السود قد توّج بملحمة تاريخية بإذلال القوات التي أرسلها نابليون في عام 1802 وعددها يقدر بـ 32 ألفًا إلى سان دومينغ.
بإعلانه، أراد ديسالين أن يوجّه رسالةً إلى النظام العالمي في عصره مفادها إنه في تلك الجزيرة المضطربة ولدت الدولة المستقلة الثانية للأمريكتين، لم يسبقها إلا استقلال المستعمرات الإنجليزية الثلاثة عشر في أمريكا الشمالية. وكانت أول دولة وضعت موضع التنفيذ إلغاء العبودية. هذا هو السبب في أن إدواردو غاليانو كان محقًا عندما أشار إلى أن هاييتي هي “الدولة الأولى التي تحرّر نفسها من العبودية في الامريكيتين.”
كانت هايتي أول دولة حرة حقًا في الأمريكتين وكانت هذه هي الحالة الأولى والوحيدة في التاريخ التي انتصر فيها تمرد العبيد السود، بشكل لا رجعة فيه، وأقاموا دولتهم الخاصة.
باختصار، كانت هاييتي أوّل “منطقة حرة” للأمريكتين. استغرق أسلافهم في الشمال أكثر من ستين عامًا لإنهاء الرّق.
كتب خوان بوش، السّياسي والكاتب والمؤرخ والرئيس السابق لجمهورية الدومينيكان، بعدما قام بتجميع معالم الإنجاز التاريخي للهايتيين ببلاغة عندما كتب أن “شعب هاييتي يحسب له ثورة هائلة. الثورة الوحيدة التي حقّقت في نفس الوقت حرب اجتماعية؛ حرب العبيد ضد السادة؛ حرب عنصرية بين السود ضد البيض والخلاسيين. حرب أهلية بين السود والخلاسيين من الشمال والغرب ضد الخلاسيين والسود من الجنوب؛ حرب دولية، ضد الإسبان والإنجليز ، وحرب استقلال، ضد المستعمرة”
افتتحت الثورة في هايتي الحركات الإستقلالية في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي مع إنجاز ثلاثي: “إعادة تعريف الحرية في تحدٍّ مباشر للمفهوم السّائد في عصر التّنوير والثّورة التي أحدثها في فرنسا؛ بناء دولة سوداء مناهضة للاستعمار والرّق داخل الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية ومواجهة منتصرة مع قوة استعمارية، أي مع النظام العالمي الحالي “. ويبقى أن نضيف أن هايتي دفعت ثمناً باهظاً لمثل هذه الجرأة.
لقد اعتدنا على ربط هايتي بالفقر المدقع، وتدهور الحياة الاجتماعية، والتعاقب اللامتناهي للأنظمة الاستبدادية التي تخنق الدوافع الديمقراطية المتكررة لشعبها، فضلاً عن الكوارث الدورية مثل الزلازل والأعاصير المدمرة. ومع ذلك، طوال القرن الثامن عشر وجزء من القرن التاسع عشر، كانت هايتي إلى حد بعيد جوهرة الإمبراطورية الفرنسية، وربما واحدة من أكثر الممتلكات المرغوبة فيما وراء البحار من قبل اللصوص الاستعماريين الذين لا يشبعون. كان منتج مزارع السكر فيها يمثل نصف الاستهلاك الأوروبي، كما لعب البن والتبغ والكاكاو والقطن والنيلي دورًا مهمًا في الصادرات الهايتية إلى أوروبا.
أصدر كونغرس الولايات المتحدة تشريعًا تم بموجبه فرض حصار تجاري على هايتي. كانت هذه هي الطريقة التي دخلت بها الولايات المتحدة إلى السّاحة الدولية، حتى ذلك الحين فاعل من الخط الثاني؛ وهي الطريقة التي لا تزال تعمل بها اليوم، وتتقن أكثر فأكثر “فن العقوبات” والحصار والضغط على دول ثالثة لإدامة نظام اقتصادي وسياسي دولي غير عادل وغير قابل للاستمرار!
لا يمكن فهم التدهور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لهايتي بدون عاملين سببيين: التعويض الذي طالبت به فرنسا للاعتراف باستقلالها، والسياسة الخارجية للولايات المتحدة. إنه لأمر مشين أن نرى كيف قامت فرنسا التي تسمى ” أم الديمقراطية وحقوق الإنسان” بابتزاز إحدى مستعمراتها السابقة لارتكابها الجريمة التي لا تغتفر المتمثلّة في الرّغبة في التّحرّر!
هذا ما يفسر الهاوية الاقتصادية التي ستغرق فيها لؤلؤة البحر الكاريبي، ما جعلها أفقر دولة في نصف الكرة الغربي وواحدة من أفقر دول العالم.
في عام 1910، اشترى Citibank جزءًا مهمًا من Banque de la République d’Haïti، البنك المركزي الذي كان يحتكر إصدار العملة. وارسل الرئيس وودرو ويلسون مشاة البحرية لحماية احتياطيات الذهب الموجودة في هايتي وحمايتها من الاضطرابات السياسية المحلية في خزائنهم المصرفية في نيويورك. وأمر بتوغل مشاة البحرية التابعة له استجابة لطلب المصرفيين دون تأخير. بعد ستة أشهر، في يوليو 1915، احتلت قوات المارينز هايتي، وظلوا فيها لمدة تسعة عشر عامًا وشهرًا ، عندما أمر فرانكلين دي روزفلت القوة الاستكشافية بالعودة إلى الوطن في أغسطس 1934 كجزء من سياسته المخادعة “حسن الجوار”.
فرض المارينز الأحكام العرفية في بورت أو برنس وبعد قرابة عامين من القتال المتقطع، قاموا بتعطيل رجال حرب العصابات المتمركزين في المناطق الريفية، وأعدموا زعيم التمرد شارلمان بيرالت. مع سحق كل أنواع المقاومة، تم تقليص بنك Banco de la Nación إلى فرع بسيط من Citibank وأصبحت رئاسة البلاد رهينة للبيت الأبيض، كما كانت الشرطة والجيش والوكالات الأساسية للحكومة تحت سيطرته. صعود الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة على العالم الجديد في نهاية.
عزّزت نهاية الحرب العالمية الثانية روابط التّبعية التي ربطت بورت أو برنس بواشنطن، كما أن السّياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة، وتدخّل صندوق النّقد الدولي والبنك الدولي، إضافة إلى الإرث المشؤوم للديكتاتوريات الإرهابية المستمرّة للولايات المتحدة إلى الزلازل القوية والأعاصير العنيفة التي دمرت البلاد، وخاصة في بورت أو برنس أدّى إلى تسليمها على طبق من فضة ، إلى سيطرة الولايات المتحدة بوساطة من الأمم المتحدة وبعض حكومات أمريكا اللاتينية. تعيش هايتي اليوم على “المساعدات الإنسانية”، التي تصل في شكل ضئيل، وعلى الوجود العسكري للأمم المتحدة لحماية النّظام الداخلي.
أتيليو بورون/ عالم اجتماع ومفكّر سياسي ماركسي من الأرجنتين.
تعريب: لينا الحسيني.
(المقال في التّعليق الأوّل)
Haití también, un primero de enero – Por Atilio Boron
2022-01-11