بين عقلية التعامل مع دول وعقلية التحالف مع عصابات إجرامية
د. عمر ظاهر
ثلاثة أمور لا مكان لها في السياسة: العواطف، والعناد، والأحلام الوردية. السياسيون يعرفون ذلك أفضل من غيرهم، ولا حيلة لنا إذا كان أحدهم لا يعرفه.
ولكن هذه هي المطبات الكبيرة التي قد يقع فيها أيضا أي كاتب يتناول الأحداث السياسية الكبرى، وعندها لا تكون المشكلة أقل إضرارا.
إننا نكون أقرب إلى الواقع كلما تحكمنا بعواطفنا في تقييم ما يقع، والحكم عليه، قبل الانجرار إلى الرفض أو التأييد، ونكون أقرب إلى الحكمة إن أرخينا العنان للمنطق كي يدلنا على ما هو ممكن، ونكون أمناء على الحقيقة إن تجنبنا أن نصور للناس أن ما يقع هو بزوغ الفجر بعد طول ظلمات داجية.
ليس هناك فجر جميل بعد ليل حالك الظلام إلا في الشعر، أما على أرض الواقع فعندما نفقد إنسانا واحدا في أي صراع فإن الحياة لن تكون بعدها كما كانت قبل أن نفقده.
إنها ستكون مختلفة وحسب. نحن الذين نبقى أحياء بعد انتهاء الصراع يحلو لنا أن نرسم صورة وردية لما وقع، فكل شيء سار على ما يرام حتى انتصرنا، ويمكننا الآن أن نتابع حياتنا في عالم الخيلاء، والزهو، والغطرسه.
نعم، بالنسبة إلينا، نحن الأحياء الذين لم نفقد أحدا، ولم نتعرض للجوع، والمهانة، والخوف والرعب، الصورة وردية ومشرقة، أما الأم التي فقدت ولدها، والطفل الذي فقد أباه، والزوجة التي فقدت زوجها فكل تجارب التاريخ تقول لنا إنهم هم من يصنع النصر، ويدفع كل تكاليفه الباهظة، ويتحمل أعباءه القاسية كي يتجرع بعد النصر مرارة الحياة. هذا ناهيك عما تجرعه الفقيد نفسه.
إن الأسوأ من كل شيء هو أن يصور أحد للناس قبل أن تقع الأحداث أو أثناء وقوعها أن ما سيقع أو يقع سينقلنا إلى عالم ساحر من الأحلام، والهدوء، والمسرات، ومشاعر السمو والغبطة.
لم أشعر في يوم من الأيام بالسرور لرؤية جندي غريب في شوارع وطني، أو في سمائه، أو في معسكر من معسكرات جيشه. حتى حين ذهب صدام حسين الذي بقيت لأكثر من ثلاثين سنة أتضرع إلى الله أن يبقيني حيا ولو ساعة واحدة بعده كي أرى نهايته، أصبت بصدمة لم أفق منها بعد لأني لم أكن أريد أن يقترن ذهابه بغزو البرابرة لوطني، وبرؤية جنودهم ومجنداتهم في شوارع بغداد.
الوطن له رجال يحمونه، وطالما هناك رجال لن يكون هناك أي مبرر لأي وطني أن يستقدم أجنبيا كي يحميه، أو يحرره.
ولكن عندما أسمع في هذه الأيام أن الروس قد يظهرون قريبا في سماء العراق، وقد ينتشر خبراؤهم في معسكرات الجيش العراقي، ومن يدري فقد يبدأ الناس بسماع اللغة الروسية في شوارع بغداد، فإني أحاول قدر ما أستطيع أن أتحكم في إطلاق عواطفي.
هناك أصوات مختلفة في داخلي، وحبسها جميعا هو امتحان لمدى استفادتي من تجارب السنوات التي عشتها حتى الآن وتجارب خمسة آلاف سنة من التاريخ الذي درسته. على الأصوات أن تصمت جميعا، ليُسمع ما يقوله الواقع السياسي لوطني والعالم كله اليوم.
الواقع يقول إن كل ما يحصل في وطني وفي المنطقة العربية يتحمل مسؤوليته الأمريكيون وحلفاؤهم الأوروبيون الغربيون. الأمريكيون أفسدوا في هذه الأرض فسادا لا تبدو له نهاية، ولم يتركوا للناس خيارا غير مد اليد لمن يرد اليد الأمريكية الآثمة عن بلدانهم.
ماذا يريد الأمريكيون حقا في هذه الأرض التي تحولت بفضل حماقاتهم إلى مجزرة كبيرة للإنسان وكرامته؟ سأحبس الأصوات في داخلي، وأعطي الحق لمن يريد أن يجرب الروس بعد أن ضاق ذرعا بلا إنسانية الأمريكي البشع الجشع الذي لا يعرف الأخلاق والرحمة، ولا يعرف الصدق، ولا يحترم العهود.
أعطيهم الحق لأن الروس ومنذ كانت لهم امبراطورية اسمها “الاتحاد السوفيتي” انتهجوا سياسة عقلانية تقوم على مبدأ التعامل مع الدول والحكومات الشرعية. كان هناك في كل بلد في زمن الاتحاد السوفيتي حزب شيوعي قوي.
في العراق، مثلا، كان الحزب الشيوعي ذات يوم قادرا على قلب الحكم وإقامة نظام موال للسوفيت، لكن السوفييت كانوا يرفضون ذلك، وكانوا يلجمون جماح الثوريين في كل مكان، ويحثونهم على التعاون مع حكومات بلدانهم، ودعمها من أجل دفعها نحو مزيد من التطوير، وتحقيق مكتسبات وطنية ديمقراطية.
السوفييت رفضوا التعامل مع أحزاب سياسية شعبية موالية لهم، وفضلوا التعامل مع بلدان مستقلة، وذات سيادة حتى إذا لم يكونوا على وفاق معهم.
في نفس الوقت كان الأمريكيون وبمجرد أن يجندوا بضعة جنرالات في جيش أي بلد يقومون بدعمهم للقيام بانقلاب لزعزعة الاستقرار، وسلب شعب ذلك البلد مكتسباته، حتى لو أدى ذلك إلى إغراق شعب البلد في الدماء.
هذا ما فعلوه في العراق، وفي تشيلي، وفي أكثر من مكان في آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية. العقلية الأمريكية عقلية إجرامية.
اليوم ما يزال النهج نفسه مستمرا، فالروس يتعاملون على أساس الاحترام المتبادل مع الدول وفق القوانين الدولية، بينما الأمريكيون يعملون على تفتيت الدول، بل وانتقلوا من تجنيد الجنرالات إلى تكوين عصابات إرهابية إجرامية والتعامل معها كحلفاء لتقويض الدول الشرعية القائمة، وزعزعة استقرارها.
الأمريكيون قاموا منذ غزوهم للعراق عام 2003 بخلق الحروب الطائفية، ونشر الفساد، وبتحويل المنطقة العربية إلى منطقة تتحكم فيها العصابات الإجرامية، ويعملون كل ما في وسعهم لنشر الفوضى والدمار، وكأنهم هم أنفسهم ليسوا دولة، بل عصابات مافيا تتعامل مع عصابات مافيا، ولا تتورع في مسعاها لتحقيق مصالحها الإجرامية عن جعل عشرات الملايين من الناس يعانون من الموت، والقتل، والمرض، والفقر، والإرهاب.
لا أمل لشعوب هذه المنطقة في الأفق إذا بقيت أمريكا هي من تتحكم بمقدراتها. لن أختلف مع من يقول إن علينا إخراج أمريكا من الشرق الأوسط مهما كان الثمن باهظا.
أمريكا هي الشر المطلق، وأي شيء غيرها قد يكون خيرا، وقد يكون شرا نسبيا.
نعم، طالما تتوجه الدولة العراقية نحو الروس لطلب المساعدة منهم لسحق العصابات الإجرامية فهذا أمر مشروع قانونا، ويمكن للعراقيين أن يتطلعوا (إذا كانت الدولة جادة في مسعاها) إلى عودة قريبة للاستقرار إلى العراق، وعودة هيبة الدولة وأدواتها، الجيش والشرطة وقوى الأمن.
إننا لا نرسم هنا صورة وردية، فالعراق سيعيش مئة سنة بعد الآن الآلام والمعاناة من الدمار الذي خلفته السياسة الأمريكية في العراق. إن إيقاف الدمار سيكون بحد ذاته نقطة تحول كبرى دون أن يعني خلق عالم وردي.
نعرف الآن أن الأمريكيين مرتبكون من التحرك الروسي المفاجئ، وهم يرون أنهم بحماقاتهم التاريخية قد وضعوا أوراقا قوية بأيدي الروس. هناك أولا فقدان الثقة بالأمريكيين بشكل مطلق الأمر الذي يعطي الروس فرصة لإثبات أنهم حلفاء موثوقون.
الأمريكيون الذين رسموا عام 1990 صورة للعراق باعتباره خامس قوة عظمى في العالم بينوا للعالم أنهم كانوا قادرين على تدمير العراق في ظرف ستة أسابيع، لكنهم في عام 2014 صاروا يقولون للناس أن محاربة تنظيم إرهابي ظهر على حين غرة ستستغرق ثلاثين سنة! ماذا يريد الأمريكي الغبي الأحمق أن يقوله إذا أثبت الروس أن كسر ظهر داعش لا يحتاج إلا إلى بضعة أسابيع؟
هذا بعد أن منحت أمريكا داعش كل ما تحتاج إليه من سلاح وأموال، وسهلت له بيع النفط المسروق من العراق وسورية في الأسواق العالمية.
الأمريكيون أسعدهم الدور السعودي في اليمن، فكل ما فيه دمار لغيرهم فيه منفعة لهم، ويرون الآن نادمين أنهم بذلك الدور أنهوا فعليا دور السعودية وبقية الخليجيين في سورية.
الأمريكيون فقدوا دعم حلفائهم الأوروبيين لمشاريعم في الشرق الأوسط، فقد صار هم الأوروبيين الآن هو تحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط بأي ثمن حتى يستطيعوا إعادة أفواج اللاجئين الذين زحفوا إلى أوروبا إلى بلدانهم، وإيقاف زحف الملايين منهم إن استمرت الحماقات الأمريكية في الشرق الأوسط. أوروبا ستنفجر من الداخل إذا ظلت سائرة في ركاب أمريكا.
والآن أيضا من حق كل من يضع ثقته بالروس أن يتطلع إلى بدء مرحلة جديدة في الشرق الأوسط قبل الانتخابات التركية في الأول من تشرين الثاني، فتركيا لن تعترض بشكل جدي على حركة الروس بأي شكل من الأشكال قبل ذلك التاريخ، والروس يمكن أن يساعدوا السوريين على طرد كل المسلحين من كبرى المدن السورية، حلب، قبل ذلك التاريخ، فيصبح دمار داعش وغير داعش أمرا مقضيا. الأمريكيون أساؤوا تقدير الأمور إلى حد كارثي، فجعلوا روسيا أقوى لاعب في الشرق الأوسط، وسيمر زمن طويل قبل أن يعوا ما حدث، ويصححوا، ليس أخطاءهم بل، عواقب جرائمهم.
مقابل الأمريكي الأحمق البشع الجشع الذي يتحالف مع العصابات الإجرامية هناك الآن الروسي الذي يتعامل مع الدول القائمة وحكوماتها الشرعية لإعادة الاستقرار، ونشر الأمن. هل هناك أي مكان للعواطف أو العناد هنا؟
سيعود الأمن بالتعاون مع الروس، نعم. ويتخبط من يدعي أن الروس قد دخلوا أفغانستان جديدة، فلا سورية ولا العراق سيتحولان إلى أفغانستان أخرى لثلاثة أسباب:
أولا، لأن السوفييت واجهوا في أفغانستان “الجهاد الإسلامي” بشقيه السني والشيعي، كل على طريقته.
أما هنا الآن فإن جزء كبيرا من الإسلام نفسه، إضافة إلى الدولة العلمانية في سورية، يطلب مساعدة الروس.
ثانيا، عندما دخل السوفييت إلى أفغانستان لم يكن هناك “مجاهد” واحد، ولم يحسبوا حسابا لقدرة الأمريكيين على رفد “الجهاد” في أفغانستان مع الوقت بعدد متزايد من الجهاديين.
أما هنا اليوم فقد وصل عدد “المجاهدين” في سورية والعراق سقفه الأعلى قبل وصول الروس، فالروس جاءوا وهم يعرفون من يواجهون، والأمريكييون لن يستطيعوا أن يجندوا من الجهاديين أكثر مما فعلوا خلال السنوات الخمس الماضية.
وثالثا، دخل السوفييت إلى أفغانستان هادئة نسبيا وكان وجودهم ذريعة لخلق الإرهاب. الروس يدخلون الآن إلى المنطقة والإرهاب يعيث في الأرض فسادا، وهم يريدون استئصال الإرهاب، ولهذا يلقون الترحيب.
أقول، لا ينبغي أن نحلم بأكثر من الاستقرار والأمن الذي يمكن أن يتحقق لشعوبنا في التعاون مع الروس، أما غير ذلك فمسؤوليتنا نحن، ونحن بحاجة إلى ثورة في عقليتنا، ومواقفنا من بعضنا البعض، وفي طريقة فهمنا للسلطة، والسياسة حتى لا تتكر المأساة التي تعيشها شعوب المنطقة منذ عام 1980 بشكل خاص.
ولا ينبغي لأحد أن يرسم صورا وردية، فالأجندة العراقية متطابقة مع الروسية فيما يتعلق بالأمن والاستقرار لأن أمن روسيا من أمن هذه المنطقة، ولكن عندما نصبح تحت حماية الروس فإن تاريخ السياسة يخبرنا أننا لن نستطيع التحرك بعيدا عن مصالحهم الأساسية – وإن لم يكن ذلك بنفس الطريقة البشعة مع الأمريكيين، وحتى لا نلف وندور فإن روسيا لا مصلحة لها في محاربة إسرائيل، ونحن العرب نعرف أن لا أمن حقيقا، ولا استقرار نهائيا طالما إسرائيل مغروزة كالخنجر في الخاصرة العربية الإسلامية.
ترى هل ستكون روسيا هي التي ستساعد على تحقيق “سلام حقيقي”! بين العرب وإسرائيل؟ روسيا ستكون في وضع أفضل من الأمريكيين المنافقين لتحقيق ذلك، طبعا إذا تغير شعار المقاومة إلى تحقيق “سلام عادل وحقيقي”!!
على أننا ربما نكون في هذه الساعة بحاجة إلى تخطي حصر تفكيرنا بالوضع الراهن وبمشكلتنا وحدنا، فالعالم بعد الضربات الجوية الروسية في سورية ليس نفس العالم الذي كان قبلها.
نحن دخلنا الآن مرحلة حرب حقيقية بين شرق حقيقي وغرب حقيقي. في ظل الحرب الباردة بين السوفييت والدول الرأسمالية كانت عبارة “المعسكر الشرقي” تطلق على الاتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية الشيوعية، بينما كانت عبارة “المعسكر الغربي” تطلق على أمريكا وحلفائها في أوروبا الغربية. كان ذلك تعبيرا غير دقيق.
أما اليوم فقد اكتسبت عبارة “المعسكر الشرقي” معنى أكثر قربا إلى الواقع، فالشرق يعني روسيا، والصين والهند وإيران وباكستان وكل آسيا تقريبا، بينما “المعسكر الغربي” سيقتصر قريبا على أمريكا الشمالية وحدها، فأوروبا تبدي الآن، وبمجرد حركة غاضبة واحدة من روسيا، مؤشرات على أنها أكثر عقلانية من مجانين البيت الأبيض وزعماء عصاباته.
أوروبا ليس من مصلحتها الانجرار إلى صراع لا يبقي ولا يذر، وهي في عقلانيتها وفي حرصها على مصالحها الحيوية أقرب إلى الشرق مما هي إلى عقلية الكاوبوي الأمريكي ومصالحه الجشعة التي لا تعرف حدودا، ولا تعترف بأخلاق.
نحن دخلنا بالفعل زمن صراع الحضارات التي تحدث عنها هننغتون .. حضارة الأمن والأمان الشرقية التي لا تضع أي شيء فوق الاستقرار والنظام وحضارة الكاوبوي الذي لا يعرف غير القتل من أجل السيطرة على كل شيء.
وهنا أيضا فإن خيار شعوب المنطقة حدده الأمريكيون فإن لسان حالها يقول “نار الروس ولا جنة الأمريكيين”. ونحن لا بد لنا أن نتجنب العواطف والعناد والأحلام الوردية