أزمة اليسار العربي ( الجزء الثاني )! علي رهيف الربيعي . ربما كان الفكر الماركسي العربي هو ، مع استثناءات قلية ، بين الأكثر فقرا وضعفا بالمقارنة مع الفكر الماركسي الأوربي والأمريكي اللاتيني . وهو كذلك لأنه جاء امتدادا للفكر السائد في الاتحاد السوفياتي الذي أصبح مرتبطا بالدولة والحزب ، بعد أن تحول إلى نظام حاكم ذي مصالح خاصة وفقدان الروحية الثورية . بمثل هذا النزوع ، ومن دون أن تؤكد الأحزاب الشيوعية العربية على استقلاليتها ومبادراتها ومواردها الذاتية وطاقاتها الخلاقة ، عمدت إلى تقديم النظرية الماركسية وتطبيقها مبسطة كما وصلت إليها من الخارج دون إن تعيد صياغتها من منطلق عربي وفي ضوء الواقع الاجتماعي المتفرد وبخاصة أن النظرية الماركسية هي نتاج الثورة الصناعية والنظام الرأسمالي في أوربا . بكلام آخر ، لم تتعامل قيادات الأحزاب الشيوعية العربية مع هذه النظرية تعاملا خلاقا ، بل تعاملا أصوليا حرفيا . يقول اسماعيل صبري عبد الله ( وكان أحد قيادات الحزب الشيوعي المصري في الخمسينيات ورئيس منتدى العالم الثالث في ما بعد ) : من الأخطاء الشائعة أن الماركسية تقدم مجموعة من الوصفات الجاهزة للتعامل مع مختلف المجتمعات البشرية . الماركسية في الأساس هي منهج علمي لدراسة وتحليل الظروف الموضوعية الملموسة لمجتمع محدد في لحظة معينة من تاريخه . وبالتالي فإن نجاح ما يقدم من حلول يتوقف في نهاية الأمر على قضيتين : القضية الأولى مدى سيطرة المفكر المناضل على المنهج الماركسي ، والقضية الثانية هي حجم معرفة الواقعية بأمور المجتمع الذي يناضل بين صفوف أبنائه . وإذا أردت أن أتكلم عن تجربتي الشخصية قلت إنني فعلت إلى حد كبير ما فعله غيري من الماركسيين في سني الشباب وهو السرعة إلى محاولة اكتشاف الحلول بغير إدراك كامل لكل حقائق وتعقيدات وتركيبات المجتمعات العربية التي تعاملنا معها … وما قمت به ، وقام به غيري من الماركسيين العرب كان حركة فكر تدور بين أقطاب ثلاثة : ” القطب الأول المعرفة بالتاريخ العربي وبالتراث العربي بأعلى معاني كلمة التراث وليس بالمعنى المبتذل فيما يسمى المشروع التراثي وما إلى ذلك . والقطب الثاني هو حركتنا اليومية مع الجماهير في نضالها ، في أمورها الحياتية وفي مطالبها وفي رؤيتها أيضا لما تعتبره مهما وما لا تراه على قدر كبير من الأهمية ، لأن من أكبر الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها اليسار هو أن يحل فيها نفسه محل الجماهير وأن يفكر لها . فهو يجب أن يفكر وسطها وبينها ومن خلال تعامله معها لأن من أهم سمات المنهج الماركسي هو عدم الفصل بين النظرية والممارسة ، بين الفكر والنضال . القطب الثالث هو النظرية الماركسية نفسها وما يجري … من جهود كبيرة لمناقشة المقولات الماركسية ومحاولة فك الأطر الجامدة التي طالما احتبس بها فكر هو في الأصل يرفض كل القوالب وكل الأطر . ومن المعروف أن ماركس قال ، هو نفسه ، أنا لست ماركسيا ” (١) . ثم إن الفكر اليساري العربي ، في توجهه إلى المثقفين وبعده عن جماهيره ، لم يتمكن من أن يعبر عن هواجس الشعب وأمانيه تعبيرا حسيا جديدا . ولا عجب في هذه الحالة أن تكون اللغة السياسية المتداولة أقرب إلى اللغة المثالية الفوقية منها إلى اللغة الاجتماعية العلمية ، وإن كررت بعض شعاراتها ومصطلحاتها . لقد أظهرت القيادات الحزبية ميلا للخوض في النقاشات السياسية والثقافية متوجهة للنخبة الفكرية على حساب الاتصال بالجماهير ، فعملت ليس مع الشعب ، بل بالوصاية عليه . هذه هي بعض العوامل التي يمكن أن تساعدنا على فهم الأزمة التي يعانيها اليسار العربي وتفسيرها . انتهى (١) اسماعيل صبري عبد الله ، مقابلة في صحيفة : القبس : ٣٠ – ٣١ / ١/ ١٩٨٨