من ذكريات عبور النهر. ح 10أخيرة!
ابو علاء منصور.
حرامي… حرامي….
نجوت من المحنة؟ كيف؟ لماذا؟ ما الذي نجاني؟صحيح انني كنت جريئاً وتصرفت بشجاعة ووعي، لكن ذلك وحده، وعلى أهميته، لم يكن كافياً لتحقيق هذه النتيجة الجبارة. ما الذي يسر لي الابتعاد عن حقول الألغام؟ ما الذي جعلني أعبر النهر من نقطة لم تكن خطرة؟ أسئلة كثيرة أجابت عنها الأقدار ببساطة!! لقد نجوت.
حين سقطت في النهر شعرت أن يداً خفية دفعتني إلى حيث المياه ضحلة! انها يد الله وانا شخص محظوظ. ثم ألم يأت على لسان الرسول عليه السلام:(إن لله جنوداً في الأرض إن أرادوا أراد)…. من هؤلاء الجنود؟ أليس منهم الفدائيين الذين افتدوا الوطن بارواحهم؟ وخيرو البشر ومخلصوهم والجادون منهم؟ والصادقين والمحبين وأنا وأنت عزيزي القارئ؟ ووو….. هؤلاء هم جنود الله.
في طريقي وانا اعبر البيارات والقنوات بعدما عبرت النهر بسلام، توالى على خيالي سيل صور متداخلة ومتناقضة…. انا فرح بانتصاري، ورفاقي يتعذبون في الزنازين… بينما كان المحققون يجتهدون للامساك باي خيط يوصلهم الي، كنت انا امسك بكل الخيوط… ظن الأعداء انهم على وشك اعتقالي فإذ افاجأهم باجتياز الحدود.
تذكرت المرحومة والدتي فسالت دمعة من عيني… استدعى شريط الخيال صورة شقيقتي نعيمة! لقد قذف بها القدر في أحضان المرارة وما زالت طفلة غضة!! تذكرت أم خضر، وزوجة غازي فلنه ووالدته! مرت بخيالي صورة والدي، الله يعينه!حضرت صورة الغوراني فابتسمت ودعوت له بالخير، وحضرت صورة روان فانتعشت روحي! ربما نلتقي ونكمل مشوار الحب…. مرت بخيالي صور الفدائيين وهم يعبرون النهر داخلين إلى الوطن او عائدين منه! شباب بعمر الورد! أي قوة سحرية تجعلهم يتخلون عن ملذات الحياة، والمدى مفتوح لهم على اتساعه كي يحبوا ويسعدوا! إنه الوطن والوطنية! ذاهبون في مهمة، راجعون من عملية. خارجون من معركة ويستعدون لخوض معركة…. هذه هي حياة الفدائيين…. صور كثيرة عبرت خيالي.
لقد مكنني الانتقال من رام الله إلى اريحا من ان اصبح خارج دائرة تفكير العدو الذي يتربصني ويطاردني، وابقاني بعيداً عن ضحيج الحالة الأمنية والمطاردة الساخنة.
كان العدو يفتش عني في أماكن لم اكن موجود فيها، وكنت انا أتحرك في محيط آمن في اريحا. تصرفت المخابرات بعقلية تقليدية، وسلكت انا طريقاً مبدعاً، كنت اسرح وأمرح في اريحا. إنني اؤمن إيماناً عميقاً بأن من اعتاد اتخاذ قرارات مستقلة، بمبادرة شخصية، لا يعجزه شيء في الحياة.
انعكست آية سلوكي الأمني بعدما نجحت في عبور النهر، تراجع حسي الأمني، فلم أعد متحفزاً بتلك اليقظة التي تحليت بها سابقاً. وفي الوقت الذي بلغ فيه شعوري بالأمان ذروته، وقد أصبحت بعيداً عن الحدود ومنطقة الخطر، سمعت صرخة نسائية وانا اعبر بمحاذاة منزل في قرية العدسية الشمالية التي قادتني الطريق فمررت بجوارها:
– حرامي، حرامي.
ربما كان ذلك عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وفي غضون لحظات وجدت نفسي مطوقاً بأربعة رجال يحملون عصيًا ويصرخون:
– وقف وقف، لا تتحرك….
لم احاول الهرب، تورطت، ربما أنه ضرب من الاستهتار ان صح التعبير .
توقفت وقلت بهدوء:
– انا لست حرامي! انا قادم من فلسطين.
اخترت كلماتي بعناية فلم اقل انني فدائي! للكلام ثمنه، فما زالت جراح أيلول الأسود حية في النفوس، لم تندمل بعد، فخشيت على نفسي.
بردت أعصاب الرجال، وتراخت أيديهم القابضة على العصي حين سمعوا الكلام، ففلسطين روح كل عربي وطني وقلب كل حر. دعوني إلى بيتهم واكرموني. لكني شعرت بحزن شديد حين قال صاحب البيت في الصباح:
– مع الأسف انا مضطر لتسليمك إلى الشرطة، فمنطقتنا حساسة أمنياً، وبعض الجيران لا شك احسوا بما جرى.
حاولت زوجته وأبناؤه ثنيه عن ذلك، لكنه تشبث بموقفه. وفي طريقنا إلى المخفر قلت له:
– ما رأيك ان تتركني وتدعي للشرطة انني هربت؟
رفض فأذعنت له، فهنا انا لست مهدداً بالمؤبد، ولا ضرورة للعناد.
بالفعل سلمني للشرطة….
سألني الملازم الأول المكلف بالتحقيق معي سلسلة أسئلة شخصية روتينية عن الاسم والعائلة والبلد وطبيعة العمل والظروف. وبعدما أفضت في شرح مغامرتي في عبور النهر، وعرف انني أستاذ سالني:
– لماذا هربت وتحملت كل هذه المخاطر؟
– اعتقلني الاسرائيليون في العام الماضي، وقبل أسبوع من الآن اعتقلوا شقيقي وسألوا عني، خفت الاعتقال والتعذيب فقررت الهروب.
– هل انت فدائي؟
– لا.
لا يسمح الوضع بان افتخر وأقول الحقيقة، انني قائد عملية بنك لئومي! خشيت العواقب، فجرح أيلول ما زال حياً كما قلت. كانت الرواية ضعيفة وغير مقنعة، لكن الضابط الذي ربما ادرك الحقيقة قبل الرواية، واكتفى بمصادرة النقود الاسرائيلية التي بحوزتي، وهذا إجراء قانوني.اغلق الملف وتوقف عن التحقيق، ولم يضايقني بأي سؤال آخر! وبعد دقائق لمحته يجمع نقوداً من زملائه، وجاء ووضعها في كفي:
– سنرسلك إلى سجن اربد، لن يطول بقاؤك هناك، وليس معك نقود لتصرف على نفسك في السجن، هذا مبلغ من النقود، مبلغ بسيط، لكنك ستحتاجه.
أي رجل عظيم هذا؟ كيف فسر الموقف؟ هل بهرته بطولة الأستاذ وانا استغرق في سرد تفاصيل الرحلة المغامرة؟ أم أنه أدرك بوعيه ووطنيته الفطرية انني فدائي؟ لماذا اكتفى بما قلته حين سألني عن الفدائي ومر على ذلك مرور الكرام؟ هل نجم الأمر عن كونه شرطياً وليس ضابط مخابرات؟ ام انه وعيه الوطني؟ باي عقلية تصرف؟ من واقع وطنيته ام من عميق إنسانيته؟ لقد تصرف بوعيه الإنساني وليس من موقعه الوظيفي. طوبى لأمثال هذا البطل.
قضيت أسبوعين في سجن اربد وافرج عني بإقامة جبرية في المنزل لستة اشهر.
انتهت الرحلة…..
مع تحيات ابو علاء منصور
وكل التحية لمن تابعوا الحلقات وتفاعلوا معها او استفادوا منها. وفي هذه الحلقة الختامية أكرر القول: إنني شخص محظوظ، وإنني عبر شدة المعاناة، تعرفت على نفسي، واكتشفت مخزونًا كنت أجهله من قدراتي وطاقاتي. وقد علمتني التجربة ان لا شيء مستحيل في الحياة. حاول، بادر، ابدأ وسترى النتيجة. وحين تقرر سيكون الله معك
2020-05-09