الكاتبُ الهُويَّة!
محمد قرط الجزمي.
لن نتعرف بسهولة على حضارة من الحضارات معرفة حقيقية بلا زيف ولا تمويه ما لم نقرأ لمثقفي تلك الحضارة وكُتابها، فبهم تظهر الحقيقة وبهم تتمثل الحضارة مجسَّدة للعيان، حتى وإن كانت قد بادت قبل عشرات أو آلاف السنين.
الكاتب هُوية مجتمعه وبلده وحضارته، إن قمنا بتقييده فإننا نقيد أنفسنا من الظهور بمظهرٍ حقيقي يعلن عن كينونتنا، ومهما كنا ظاهرين في عصورنا، إن لم تظهر لنا كتاباتٌ ويبرز كُتابٌ يتحدثون بلسان حالنا فإننا بعد لأيٍ سوف ننزوي وسينسانا التاريخ.. الكاتب هو من يكتب التاريخ،
ومن الخطأ كل الخطأ أن نمنع قلماً أن يخطَّ حروفه في كتابة التاريخ؛ لأن الحقيقة التي يجب ألاَّ نتجاهلها أنَّ التاريخ مكتوبٌ مكتوب، إن لم نكتبه نحن فسيأتي آخرون يكتبوه لنا، وربما هذا الآخر عدوٌّ يسعى ليشوِّه صورتنا ويُظهرنا بالبشاعة التي لا نستحقها.
فقط المجتمع غير النظيف هو من يخشى كُتابه، والحضارات المشوَّهة هي التي تخاف أن تبدو قذارتُها للعيان، لهذا السبب نجد هتلر في فترة جنونه ضيَّق الخناق على المثقفين، وكثيرٌ من كُتاب ألمانيا هاجروا آنذاك هرباً من سطوته عليهم.. وحينما وصل المغولُ إلى بغداد أحرقوا مكتباتها، ليقينهم أن الكتب تمثِّل هوية المسلمين وواجهتهم، ومن أولويات أي سلطة احتلالية على مرِّ العصور هو طمس هُوية المستضعف المُحتل.
لستُ أبالغ إذ أقول إنَّ أي سُلطة في العالم تحرق كتاباً أو تمنعه من الانتشار، أو تحبس وتسجن كاتباً، هي في حقيقتها رأت في الكتابِ أو الكاتبِ عُريَّها وفضيحتها وكشفَ حقيقتها؛ لذلك فعلت ما فعلت، خوفاً وجبناً من أن تُبدىٰ سوءاتها.
نحن في الوطن العربي طمسنا هوية الأدباء، فطُمست هوية الأمة معها، لم نحافظ على حقوق الكُتَّاب فضاعت حقوق الشعوب.. نحرق بعض الكتب، نصادر بعضها، نمنع بعض المؤلفين من كتابة مواضيع تخص المجتمع، ونمنع انتشار كتب بعينها.. من حق الكاتب أن يكتب بحرية، يعطي مِنْ فِكره ما يراه حقًّا، ما دام لم يتعرض لسب ولا شتم ولا إهانةٍ لأحد..
من حق الكاتب أن يكتب بقلمِه نفسِه، لا أن يستعير قلم ذوي السلطات يكتب ما يُملىٰ عليه، هنا تضيع هُويته، وتضيع هُوية الشعب، وتتبدل الحقيقة التي يجب أن نتحدث عنها لتظهر لنا بدلاً منها صورةٌ مجسمةٌ باهتةٌ لشيء لا وجود له، يُهيأ لمن يقرأ أن له وجوداً.
يسوؤني كثيراً أنه لا توجد منظمات تدافع عن حقوق الكاتب، ومن ينشئها؟ أولئك الذين لا يفقهون في الأدب والسرد شيئاً، يرتدون عباءات الثقافة تيهاً وعدواناً ويتاجرون بالأدب؟!
يصف شكسبير مدادَ قلمِ الكاتبِ أنه كدمِّ الشهيدِ في قداسته، لا يجب أن يُمسَّ بسوء، لكن لا يبدو أن صوته وصل إلى أسماع وأفهام قاتلي الحروف، الذين يمنعون ويحرقون ويسجنون، وما أكثر الكُتاب الذين سُجنوا عبر التاريخ، تشهد لهم جدران السجون.. ثم حتى وهم في السجون استمروا يكتبون؛ لذلك نجد تصنيفاً في بعض المكتبات لبعض الكتب أنها من أدب السجون..
هؤلاء شجعان، والشجاعة سِمةُ الكاتبِ الحقيقي، تماماً كما قال نزار قباني ذات يوم: ‹‹الكاتب الكبير هو الذي تنخر في عظامه جرثومة الشجاعة››.
إنه الهُوية، وحينما نتحدث عن الهُوية فإننا نكتب الهاء مضمومة، ننسب الكلمة إلى الضمير (هُو).. فالكاتب هو مجتمعه، هو شعبه، هو بيئته، هو بلده، هو كل من حوله وما حوله، هو نحن، إذا طمسناه طمسنا أنفسنا، وإذا منعناه من الظهور فإننا نمنع أنفسنا من الظهور، وإذا أسكتناه فإننا نُسكت أنفسنا من الحديث عن أنفسنا، ونترك المجال لكل من هبَّ ودبَّ، من الداخل والخارج، كي يتحدث بالنيابة عنا، وقد يشوِّهنا، ربما أكثر مما نحن مشوَّهين.. إن لم نُعِنْ الكاتبَ على أن يكتب، على الأقل دعونا لا نقيِّده ولا نكبِّله بالسلاسل، فإذا فَقَدَ الكاتبُ استقلاله ـ هكذا يقول الشاعر الجزائري عبد الرفيع الجواهري ـ فإنه يصبح إذ ذاك مجرد آلة تفريخ للأفكار، وبالطبع لن تكون الأفكار أفكاره، إنما أفكاراً موجَّهة، لا نعلم من يوجِّهها.
هناك رسالتان أوجههما في مقالي هذا..
الأولى لكل ذي سلطة: لا تعيقوا كاتباً، ولا تحرقوا قلماً سال لينشر فكراً، فإن كان لا محالة من محاربته، فحاربوه بسلاحه الذي يفهمه ويعيه؛ القلم.
الرسالة الثانية لكل ذي قلم: لا تخف إذا كتبت، فإذا خفت لا تكتب.
عُمان
2020-04-02