اليوم الذي اجتمعت فيه الفصول.6 !
ابو زيزوم.
قضي الامر وسُدت السبل امام الجميع . وللمرة الاولى يشعر مهدي انه والأستاذ في خندق واحد امام عدو مشترك ، ذلك المجهول الذي أدمى قلبيهما بضربة واحدة . من المؤكد انه من عالم يسار الاخر النائي عن الجامعة ، عالم أقربائها وجيرانها ومعارفها هناك . وأيّاً يكون فهنيئا له ما نال حظه السعيد . ربما حصل على هذه الجوهرة دونما تعب او عناء ! ربما بمحض الصدفة او بالوراثة . وربما لا يكن لها نصف ما يكنه هو او أستاذه من الوله والهيام . طبعاً ان ينالها رجل مجهول أهون على نفس مهدي من ان ينتزعها هذا الاستاذ المتجبر . الا ان هذا التهوين لا يقلل من احساسه بالخسران الأبدي .
ما زال في الكافتيريا ضمن حلقة تتزايد حتى اجتذبوا طاولة ثانية ليتسع لهم المجلس . وما زال عازما على المغادرة لضيق شديد في صدره يريد التسرية عنه بالمشي وحيدا . وأقبلت يسار بمشيتها الوئيدة تضم الكتب الى جنبها الأيسر ومن اليمنى تلوح حقيبة يدها الصغيرة وتحت البلوز النيلي يتكور الصدر الكاعب مثل حبيس يجاهد للخروج . رأتهم فانعطفت اليهم ، وأُفسح لها المجال كي تجد مكانا في جهته ، اي انه وليشبع شغفه من رؤية وجهها البهي يحتاج الإلتفات نحو اليمين باستمرار .
كان الحديث يتركز على الامتحانات الاخيرة عندما أقبلت ، لكن حضورها سيغير الموضوع الى ما يشغل بال مهدي من شجون . فتولاه الشلل ، لا يملك اتخاذ قرار الانصراف او البقاء . الى ما قبل بزوغها بلحظة كانت المغادرة خياره الوحيد والملح . اما وقد جاءت وستُسأل وتجيب فإن صراعا محتدما بين الفرار والمواجهة يعتلج في رأسه . ثم قطع عليه طريق الفرار قولها انها أتت لأن مهدي ينتظرها هنا . تبادل عديدون نظرات الاستغراب لجهلهم المطبق بوجود اي صلة بينها وبين مهدي . فاللقاء الوحيد الذي جمعهما قبل اكثر من شهر كان في ركن مهجور لا يراه احد . وصعودها اليه صباح اليوم للشكر كان اثناء نزول الطلاب فلم يلاحظه الآخرون . وما عدا ذلك تحية على شكل إيماءة قبيل الامتحانات تمر مرور الكرام .
إنتبه مهدي الى النظرات الوجلى الصادرة من هنا وهناك عندما أدلت يسار بهذه العبارة . وحين فكر في الامر وجد انه نفسه لا يقل عنهم استغرابا ، فهو في الحقيقة لا يعرف عن محبوبته سوى انها جميلة تلهب وجدانه بجاذبيتها الآسرة . فهل يتحمل هذا النزر اليسير من التعارف كل هذا البناء الشامخ من قصة حب لا وجود لها الا في سره المشبوب !. حاول ان ينظر الى الخلف ، منذ ان وافته صباحا لترفع له باقة امتنانها العطرة ، فرأى بعيون قلبه زمناً سحيقا مفعما بالأحداث الجسام . لم يمض على اللقاء سوى ثلاث ساعات فهل يعقل ان وقتاً بهذا القصر يحوي كل هذه الأحداث ؟.
تقول يسار انها آتية الى هذا المكان لأجله ، ولكنها أخبرته مسبقاً بنيتها الرجوع الى الكافتيريا !. ربما قصدت المجيء الى هذه الطاولة بالتحديد لأنها رأته . وعلى كل حال الكرة في ساحته كما يقال وعليه القيام معها الى مكان منفرد ان كان يريد قول شيء . لم يبق لديه ما يقوله . ستكرر شكرها له بأرق العبارات وأحلاها ، وسيكون ذلك اشد فتكاً بقلبه الدامي . وما عليه الان الا الاستئذان منها والذهاب . وقال احد الجالسين مرحّباً بيسار وقد استقرت ووضعت كتبها والحقيبة الصغيرة على طرف الطاولة : يا اهلًا ومرحباً بخطيبة استاذنا . فطن مهدي الى انه يسبق زملاءه بأشواط ، فهم او اغلبهم على الأقل مازالوا يعتقدون انها باتت خطيبة للدكتور جمال . وابتسمت يسار بخفر دون ان تعلق فتوردت وجنتاها . فرد الثرثار مصححاً : انها خطيبة شخص آخر غير أستاذك . فغزت الدهشة معظم العيون . وقالت احدى الطالبات : ان يسار رفضت الدكتور . احدثت العبارة وقعا على الوجوه وحصلت همهمات استفهام . واكدت الوسيطة واقعة الرفض فطولبت يسار بتبريره . ارتعشت اهدابها بفعل الارتباك وامتدت يدها لتعبث بشعرها الغافي تحت الايشارب في محاولة لا شعورية لمداراة الحرج الناجم عن توجه كل الابصار نحوها . قالت بنبرة تمزج الأسى والإصرار : المشاكل التي خلقها لي تمنعني من تقبله . ناقشها عديدون في ان تقدمه لها يمكن ان يفتح صفحة جديدة وان الارتباط به سيحل جميع مشكلاتها . قالت تدافع عن موقفها : انا أكرهه .. بصراحة انا حاقدة عليه وهذا امر لا يمكن العبور عليه في موضوع زواج . كأنها تستعيد أحزانها فتختنق بالكلمات في حلقها . ومهدي يصلت عليها بصراً حديدا لا يطرف له رمش . وفي داخله أمل يتجدد ، فهي ذكرت كراهيتها للأستاذ مانعا منعها من قبوله ولم تذكر سببا آخر ! فما حكاية انها مخطوبة لشخص آخر ؟.
ضايقته الاغنية المنبعثة من مكبر الصوت فهو في ذروة الاصغاء يحرص على سماع حتى خلجات روحها وتردد أنفاسها . والطلاب من حوله غير آبهين بأمواج الأحداث المصطخبة من حوله ، فعاد بعضهم الى موضوع الامتحانات وهناك من يتبادلون المزاح فتجلجل ضحكاتهم في جو الصالة .
ولم يطق هو الانتظار فخرج عن صمته الصارخ وقال : لكننا سمعنا انك اعتذرت بكونك مخطوبة !. إلتفتت اليه وهي ليست اول إلتفاته فقد تلاقت عيونهما عدة مرات . واجابت : عذر. فنطق اكثر من صوت بلهفة : يعني انك لست مخطوبة ؟. ردت ببداهة : طبعا . فصفق قلبه طرباً. قالت ان من غير اللائق رفضه دون مبرر مقبول . وقالت انها تتحاشى تعقيد المشكلة معه فالنتائج الامتحانية لم تظهر بعد وربما لا يحالفها النجاح في مادة الضوء وعندها تبقى تحت سياط عدوانه . قالت ذلك ونظرت الى مهدي نظرة ذات معنى وهي تبتسم بلا تحفظ . وجمعت كتبها ونهضت ومهدي متعلق البصر بها فقالت له : هل أستطيع التحدث اليك ؟ فنهض واقتفاها.
________انتهى
( ابو زيزوم _ 809 )
لقراءة الأجزاء الخمسة من القصة.
https://www.sahat-altahreer.com/?p=59143https://www.sahat-altahreer.com/?p=59117https://www.sahat-altahreer.com/?p=59087https://www.sahat-altahreer.com/?p=59039https://www.sahat-altahreer.com/?p=59017
2020-03-12