العراق..بين زهد المرجعية وسفه الطبقة السياسية!
بقلم: د. خالد شوكات*
تعود علاقتي بالعراق الى ما يزيد عن ربع قرن، ابتدأت بصداقة ربطتني في المهجر الاوربي بعشرات المثقفين والساسة العراقيين، وانتهت الى زيارات متكررة لهذا البلد العربي منذ 2007، الذي عادة ما تصفه الادبيات السياسية ب”البوابة الشرقية” للوطن العربي، لكنّهُ في رأيي “مركز” الحضارة العربية، فكل شيء يمتُّ بصلة للعرب، ادبا وشعرا وثقافة وعلما ودينا وفقها وفرقا ومذاهب وطوائف منبعها بلاد الرافدين.
كنت من بين قلة من العروبيين ممن أعلنوا معارضتهم لنظام صدام حسين، فانا ممن يؤمن بان الديكتاتوريات لا تحقق احلام الامم في التقدم، وعادة ما تنتهي سياسة الطغاة بكوارث على شعوبهم وبمنحٍ تقدّمُ لأعدائهم مجانا، وهكذا كان رأيي ان النظام الصدّامي -والانظمة الشبيهة- قد قاد الامة العربية في نهاية الامر الى مزيد من الارتهان للاجنبي والتفريط في ثروات الوطن العربي.
وعندما سقط نظام صدام سنة 2003، توقعت ان تسقط الأنظمة العربية ذات البنية المشابهة قريبا، وكان توقعي في محلّه، فبعد سبع سنوات تقريبا تهاوت جراء ثورات الربيع العربي عديد الأنظمة الجمهورية او الجماهيرية، ودشنت العديد من الدول العربية مسارات انتقال ديمقراطي، غالبيتها متعثرة وحائرة كما هو حال الانتقال الديمقراطي في العراق، وَكما هو الحال في بلاد الرافدين، حيث حلّت أنظمة برلمانية هجينة ومشتتة تقوم على “المحاصصة” و”الفساد” جعلت ضعاف الناس يترحّمون على ايام الطغاة في ظرف وجيز، وهو ما كتبته في مقدمة كتابي “انهيار الصنم” المنشور في 2004، وحذرت منه في حال لم تحسن القوى السياسية التي تسلمت السلطة في سياقات ديمقراطية ادارة السلطة.
لقد تسلّم الاسلاميون الشيعة، ومن بينهم أصدقاء مقربون، السلطة في العراق، ضمن احزاب متعددة بدّلت أسماءها وعناوينها ومساراتها عديد المرات خلال سنوات قليلة، وقد سنحت لي الفرصة اكثر من مرة لزيارتهم في بغداد، سواء في مقرات احزابهم او بيوتهم العامرة التي تعود في ملكيتها في بعض الحالات الى شخصيات قيادية بارزة زمن صدّام، ولكن المفارقة اللافتة التي لاحظتها باستمرار، ذلك الفارق الشاسع الكبير في مستوى العيش بين “مراجع النجف” مثل السيد السيستاني والسيد محمد سعيّد الحكيم، الذين يتردد عليهم هؤلاء الساسة الاسلاميون من سكنة القصور، وهؤلاء المراجع الزّهاد الذين ما يزالون يفترشون الحصران ويقتاتون على ما تيّسر وتبدو اجسادهم نحيلة من فرطِ قلة الزاد، وبين هؤلاء الزعماء السياسيين من قادة الأحزاب الاسلامية، التي ما فتئت تذكر الجمهور بانقيادها لأوامر المراجع ووصاياهم، بينما تبدو التخمة واضحة على وجوههم وكروشهم كما تبدو روائح فسادهم “التاريخي” تزكم الأنوف، فإن راجعنا التاريخ والاصل في وجود الطائفة الشيعية، علي ابن ابي طالب، زاد الاندهاش بين خليفة كان يأتيه نصيبه من الخراج أربعة الاف درهم لا يبيت درهم واحد في بيته مثلما يحدّث الرواة، وبين حكام يظهرون المودّة له والاقتداء به، ليس من سمة لحكمهم الا الفساد واكل أموال الناس بالباطل وسكن القصور بينما شرائح الفقراء من قومهم في ضيق وحرج وازدياد، حتى كاد الامر يخرج من بين أيديهم من فرطِ كره العامة لهم ومقت الشباب لسيرتهم.
ان تجربة الانتقال الديمقراطي في العراق، التي هيمنت على توجيهها الأحزاب الاسلامية الشيعية، قد اقترنت الى حد كبير بظاهرتي “الفساد المالي” و”المحاصصة السياسية”، وهو الحال الذي تكرر تقريبا في جميع تجارب الانتقال الديمقراطي التي تعيشها دول الربيع العربي، وانتهى بعضها الى حروب أهلية طاحنة وصراعات داخلية مريرة، وعلى الرغم من ان إسلاميي العراق شيعة في المقام الاول، فان سيرة الإسلاميين السنة في بقية الدول لم تشذ كثيرا، فذوو السلطان الاعظم سكنوا القصور واستباحوا أموال الناس في زمن قياسي وعادوا من أغنياء القوم وعليتهم، لكن اذا كان للاسلاميين السنة عذر في ان لا مرجعية لهم، فهم المراجع والحكام في ان، فان الإسلاميين الشيعة بلا عذر لان مراجعهم زهّاد، وذلك مبحث يستحق التفكير والتدبير.
*كاتب ووزير تونسي سابق
2019-12-11