سالوفة “الارجنتين”.. شيطنة إعلامية لا مثيل لها في التاريخ!
صائب خليل. قبل بضعة اشهر، أطلق رئيس الحكومة العراقية عادل عبد المهدي ان المخدرات تأتي للعراق من “الارجنتين”!! وقد اطلق بذلك، حسب تقديري، أكبر حملة إعلامية شيطانية أمريكية في عبقريتها، في تاريخ هذا الاعلام في العراق، وربما في العالم! انقلب الشعب العراقي على ظهره من الضحك على عبد المهدي من هذا “الغباء” والتحيز المفضوح البلادة لإيران في الدفاع عنها والقاء اللوم على “الأرجنتين”! لكني اتخيل عبد المهدي قد انقلب على ظهره ايضاً من الضحك على سذاجتنا كشعب وسهولة انطلاء الحيل علينا، فأي من الطرفين كان على حق؟ وما هي الحيلة في ذلك إن كانت هناك حيلة؟ وما الغرض منها؟ . في السياسة هناك قاعدة صحيحة في 99% من الحالات: أنظر الى نتائج أي فعالية سياسية، وابحث عمن يستفيد منها، وسيكون هو من خططها ورتب تنفيذها، وليس “الصدفة” أو “العفوية” أو غيرها. فكما يقال: “في السياسة لا توجد “صدف” .. !” ولا يقصد من قال ذلك الكلام، المعنى الحرفي لقوله، فهناك استثناءات دائماً، لكنه يقصد أن تلك الاستثناءات من الندرة بحيث ان إهمالها لا يوقعك في الخطأ إلا نادراً. فما هي نتائج “جفصة” عبد المهدي إن صح التعبير؟ . أهم تلك النتائج أنها أثارت الناس من إيران وثبتت في اذهانهم ارتباطها بالمخدرات بشكل لم يسبق له مثيل، وبأقل كلفة ممكنة! وهناك نتائج أخرى خطيرة لا يسهل رؤيتها، كما سنرى. لكن هل يكفي هذا لنعتبر ان ما جرى “خدعة” مرتبة وليست “زلة لسان”؟ . الحق يقال أن الخدعة كانت متقنة جداً ولم يكن بإمكان الناس اكتشافها في وقتها، فهي من نوع جديد تماماً. لكن كان بالإمكان ان يشك بها ويتساءل ويقلق، بدلا من ان يضحك. فقد كانت هناك تساؤلات لو طرحها المواطن على نفسه لتوقف عندها طويلا ولاكتشف ان فرضيته لتفسير ما حدث بأن “عبد المهدي كان بالفعل يدافع عن ايران بهذا الغباء المفضوح” غير قابلة للتصديق. . أول التساؤلات هي: هل ان عبد المهدي غبي حقاً؟ إطلاقاً! أنا موقن ان عبد المهدي قد يكون أذكى رجل وصل الى رئاسة حكومة عراقية منذ تأسيس العراق. ما ينقصه فقط الأخلاق والإحساس الوطني والإنساني. إنه قادر على ان يفعل الكوارث “ووجهه وضاح وثغره باسم”، وليس كمثله في عبقرية تمثيل الورع، وهو ابعد عن الله من ابليس ذاته! إن من قرأ تصريحاته بشأن خططه للعراق حين كان وزيراً للنفط أو من قرأ تفاصيل مشروع ما سمي “شركة النفط الوطنية” يعرف عن أي وحش نتكلم! ومن لم يقرأها يمكن أن يتفق معنا على الأقل ان الرجل ليس ابلهاً على الإطلاق. فكيف يمكن ان يطلق مثل هذا التصريح؟ إن في القضية “إنّ” كما يقولون.. ثاني التساؤلات: هل كان يريد الدفاع عن ايران حقاً؟ . أنا اعتقد ان عبد المهدي، ومن خلال مشاريعه العديدة التي تابعتها، أمريكي أكثر من ترمب نفسه، ولا يخطط للمنطقة إلا ما تقتضيه التعليمات الأمريكية، سواء بشأن إيران أو الحشد او الاقتصاد العراقي او مصير العراق، وان تفسير حسن علاقته مع حكومة ايران معقد بعض الشيء يعود في رأيي الى امرين: تعليمات أمريكية للتساهل مع ايران لتغطية حقيقته المخيفة في تبعيته الكاملة لأميركا، من جهة، وتواطؤ حكومة روحاني التي تتعاون مع الإدارة الامريكية كلما استطاعت ذلك دون ان تكشف نفسها، من الجهة الثانية. لكن هذا التساهل والتواطؤ لا يمكن ان يصل حد الدفاع عن ايران، وخاصة بهذه الطريقة الفضائحية، بوضع دولة أخرى محل ايران كمصدر للمخدرات القادمة الى العراق. . فلو أراد عبد المهدي الدفاع عن ايران، لوجد طرقاً عديدة واضحة افضل واكثر اقناعاً بكثير، ومنها القول “ان ذلك التهريب لا يتم بتعاون او علم الحكومة الإيرانية”، و “ان ايران من الدول التي حصلت على جوائز عالمية بمحاربة المخدرات”، وهذه حقائق سهلة الاثبات واكثر اقناعاً. كذلك يمكنه ان يلقي باللوم على حرس الحدود في العراق حول ذلك التهريب، او يقول انهم يتحملون المسؤولية الأولى في حماية بلدهم. باختصار، كان لدى عبد المهدي خيارات كثيرة جيدة لو أراد الدفاع عن ايران، فلماذا اختار دفاعاً مغرق في فشله مسبقاً؟ ثالث التساؤلات: لو أراد عبد المهدي القاء اللوم على بلد اخر، هل الأرجنتين خيار معقول؟ أن أي طفل يستطيع ان يجيب فوراً بالنفي! الارجنتين ليست من الدول المشهورة بالمخدرات، وأهم من ذلك ان أنها لا تجاور العراق، ولم يسبق لأحد ان أشار الى مثل هذا الأمر في أي خبر او تقرير! كما ان عبد المهدي لم يحاول ان يشرح مقولته العجيبة اطلاقاً كأن يعطي المواطن معلومة جديدة تغير قناعته السابقة. . إذن اختيار الارجنتين يبدو اختياراً متعمداً للفشل. ولو أراد مدافع عن إيران ان يختار بلداً اخر يلقي اللوم عليه لوجد في الإمارات خير بديل. ففي تلك الفترة تم القاء القبض على واحدة من الشحنات الكبيرة المتعددة القادمة من الإمارات، وكان سيكون مقنعاً جداً. خاصة ان ما امسك من مخدرات الإيرانيين هي حالات فردية في العادة، حسب متابعتي للأخبار. لكن الرجل اختار “الارجنتين” بالذات لسبب ما. فعلينا اذن اما ان نعتبر الرجل بليد بشكل تام، أو أن هناك سبباً لم نفهمه وراء ذلك التصريح! الكل فضل ان يتجاهل التفكير بهذا السؤال وان يعتبر السبب هو انه بليد جداً ومدفوع بمحاولة دفاع يائسة عن إيران، وعبد المهدي ابعد ما يكون عن البلادة. وانطلق الجميع يسخر … وكانت السخرية في الحقيقة من استحقاق المواطن الذي لم يتوقف للتفكير والمراجعة! . ما الذي حققته هذه الحملة العبقرية؟ 1- مجانية نشر الحملة على عموم البلاد: كلمة عبد المهدي، جعلت الشعب العراقي كله جزء من الحملة الإعلامية التضليلية على نفسه! فتبرع الجميع بالحديث والضحك وترديد القصة النكتة. والنكتة ضمنت القول: “ايران هي سبب مشكلة المخدرات في العراق.” والبسته ثوباً يستحيل مناقشته، وجعلت هذا الموضوع موضوع الساعة وتندر الناس وحديثهم المفضل الذي يرددونه في وسائل التواصل والاحاديث بين الأصدقاء، وليس فقط بين المؤدلجين مسبقا ضد ايران، والذين وجدوا في النكتة سعادة لا توصف. . 2- كل جرائم عبد المهدي تلقى على إيران: مما أنجزته تلك الحملة أنها ثبتت الصورة الإعلامية المهمة بأن عبد المهدي هو في الخندق الإيراني وانه تابع لإيران بشكل تام ومطلق، وبذلك سيمكن القاء كل الجرائم التي قام بها بحق البلاد وتلك التي سيقوم بها في بقية اشهر او سنوات حكمه، على إيران، وليس على اميركا! وسيذكر الناس هذه الفترة العصيبة المدمرة كدليل على التدمير الذي تحدثه العلاقة مع ايران على العراق. . 3- إيران مسيطرة على العراق: ثبتت الصورة الإعلامية بأن ايران هي المسيطرة في العراق وانها هي وليس السفارة الامريكية من يعين الحكومات العراقية. وبالتالي فأن غضب الشعب وجهوده لتحرير بلده ستوجه نحو “طرد ايران” وليس القواعد العسكرية الامريكية والتركية ولا القاعدة الاستخباراتية المسماة “سفارة”. وفي احسن الأحوال فأن الحملة ستساوي إيران بأميركا في سيطرتها على البلاد. . 4- حماية عبد المهدي لتنفيذ الأوامر الامريكية دون شبهة: مشكلة العميل في تنفيذ تعليمات رئيسه، أنه متهم مسبقاً بتلك العمالة وأن أية محاولة مشبوهة للتنفيذ ستثير الناس وتؤكد عمالته. لكن القرب المفترض لعبد المهدي من ايران، كما ثبتته الحملة في أذهان الناس، يجعله اكثر حرية من تهمة التبعية لأميركا، وهذا يجعله اكثر قدرة على تنفيذ اجنداتها (مثل إبقاء القوات والقواعد وأنظمة الاقتصاد المدمرة المفروضة أمريكيا، الخ) دون ان تتسبب تلك القرارات بضجة كبيرة عليه، مثلما لو كان معروفاً كتابع امريكي! . 5- إحساس مزيف بالاطمئنان لقادة الحشد: فائدة أخرى للأمريكان من إشاعة قرب عبد المهدي من ايران، هي إعطاء إحساس مزيف بالاطمئنان إلى قادة الحشد الشعبي ومؤيديه، والعراقيين الشكاكين بالنوايا الأمريكية، بأن الحكومة لا تقف مع الأعداء، وانه يمكن الاعتماد عليها، والثقة بها. وقد دعم هذا الاطمئنان المزيف بإلقاء بعض العظام الاقتصادية لإيران، وبقرارات اقتصادية ترضي بعض قادة الحشد، إضافة الى أمور شكلية مثل تمثيل الحشد في حرس الشرف. والنتيجة أن قادة الحشد يتصرفون اليوم بثقة مثيرة للدهشة مع عبد المهدي، لا تنم الا عن سذاجة سياسية مطلقة وخطرة للغاية. هذا الاطمئنان يعطي الأمريكان الوقت اللازم والحرية لاختيار توقيت الضربة القادمة بلا شك للحشد. هذه الحملة وامثالها ستؤخر اكتشاف الحشد للورطة التي وقع فيها، ربما الى ما بعد فوات الأوان. . 6- تمكين كذابي الثورية من دعم عبد المهدي: إعطاء الإحساس للناس بأن عبد المهدي قريب من ايران، يجعل من الجهات المدعية الوطنية والبعد عن اميركا، اكثر قدرة لدعم حكومة عبد المهدي، ويتيح لها الاستمرار بإطلاق القنابل الصوتية من شعارات ادعاءاتها بالوطنية ورغبتها بإخراج الجيش الأمريكي من البلاد، لتحافظ على دعم جمهورها وتمنح المؤامرة الامريكية فترة أطول. . ونذكر انه مقابل ان كان ربط عبد المهدي المخدرات بالأرجنتين صادماً للعقل العراقي بشكل يحول العبارة الى نكتة، فأن هذه الحملة قامت بعد تحضير عقول الناس لربط المخدرات بإيران وليس الإمارات مثلاً. فقد انتشر في الفضائيات فيديو عن القاء القبض على رجل قيل أنه “إيراني”، كان يضع المخدرات في حفاظة يلبسها، وتم تصويره واهانته علناً (رغم ان ذلك مخالف تماما للقانون ولتعليمات الشرطة) وبشكل يبقى في الذهن. لذلك، حين جاءت حملة الارجنتين لعبد المهدي، كان الناس جاهزين للنكتة ولتحويلها مباشرة الى إيران. النقطة الأخرى العبقرية في تلك الحملة هي ان الضحية الثانية (ايران، باعتبار ان الضحية الأولى هي الشعب العراقي) عاجزة تماماً عن الدفاع عن نفسها. فعبد المهدي لم يتهم إيران بشكل مباشر، والإعلام يجلدها دون ان يأتي باسمها، ولا يمكن منع الناس ان يطلقوا النكات! ولو حاولت ان تفعل أي شيء لزادت الطين بلة والحملة انتشاراً والناس سخرية منها. . لم اكتب عن هذه المقالة في وقتها لأسباب عديدة، واهمها أني كنت واثقاً ان احداً في تلك الفورة لن يريد ان يصدق شيئاً آخر غير ما قدمه الاعلام له، وان اية محاولة لوضع تساؤلات ستفسر بأنها محاولة يائسة للدفاع عن ايران ولن تنتج إلا العكس. لكننا نبعد اليوم بضعة اشهر عن الحدث، وقد نسيه الناس قليلاً، وليس من مصلحة إيران او من يدافع عنها، إثارته من جديد، لذلك تسقط تلك التهمة. كما أني آمل ان الناس قد هدأت وانخفض تأثير الضربة الإعلامية عليها وصارت اكثر قدرة على مراجعة هادئة لما كانت قد صدقته سابقا، واكثر قدرة على الاعتراف بالخطأ واستنتاج الدروس منه. . الاعتراض الأساسي الممكن على هذه المقالة، هو انها تدعي ان عبد المهدي مشاركة في حملة تجعله محل سخرية، وهذا صعب التصديق. لكن نظرة أخرى تجعل الأمر أسهل قبولاً. ولنتذكر انه مقابل تلك السخرية فإنه يحصل على حماية كبيرة من الشكوك والشبهات، وهو بحاجة لتلك الحماية لأن اجراءاته قد فضحته كعميل امريكي، والسخرية منه كتابع إيراني اهون بكثير. كما أن تلك الحماية ستمكنه من تنفيذ التعليمات القادمة براحة أكبر. وليس صعباً ان من دعاه للمشاركة في الحملة، قد اقنعه بتلك الفوائد وقيمتها ودعاه لتحمل السخرية. . عبد المهدي له تاريخ مشبوه جداً منذ ستينات القرن الماضي كقيادي في انقلاب شباط الذي قادته الولايات المتحدة، ونشأته في عائلة اقطاعية معروفة الارتباط بالإنكليز، خسرت أراضيها بالثورة. ثم انتقاله بين الأحزاب المهمة، وبدون أي تفسير يقدمه، وكأنه يكلف بمهمات مختلفة في تلك الأحزاب. ثم مواقفه بعد 2003 واهمها تصريحاته بضرورة إعادة العراق وقوانينه الاقتصادية الى ما قبل ثورة تموز، وأخيراً وليس اخراً قيادته لأشد المشاريع الامريكية خطورة على العراق حتى اليوم، أي مشروع “شركة النفط الوطنية” الذي وصفه خبير المحكمة الاتحادية بأنه لو تحقق، لكان يهدد بحجز الشركات الأجنبية لثروة العراق وبإسقاط العراق في الإفلاس والحرب الأهلية.. كل ذلك يجعله قبوله المشاركة في مثل هذه الحملة أمراً ليس غريباً، وقد يزيل الوهم عن اية علاقة حقيقية له بإيران، مع عدم استبعاد مغازلة بينه وبين روحاني الذي اراه مغازلاً للأمريكان أيضا. . الاعتراض الثاني على المقالة قد يكون مشاركة المؤسسات العراقية بحملة التشويش، مثل شرطة الحدود، أو على الأقل عدد من المخترقين في تلك الشرطة، إضافة الى مشاركة تامة للإعلام العراقي. ولكن هذا ليس غريباً، فكل المؤسسات العراقية مخترقة، خاصة العسكرية والأمنية، اما الإعلامية فهي أمريكية بحتة، مهمتها الأساسية التضليل والتشويش، ولا تدفع رواتب موظفيها الا من أجل ذلك. . الاعتراض الثالث هو شكل عبد المهدي وهو يطلق تلك الجوهرة.. البراءة التامة والمطلقة! لا أثر للكذب والتآمر في وجهه… لا نظرة غريبة ولا تردد او تأتأة ولا تقلص في اية عضلة في الوجه! إنه عبقري التمثيل وملكه غير المتوج!(1) نقطة الضعف الوحيدة في المسرحية هي انه طرح قضية المخدرات والأرجنتين بلا مناسبة كما يبدو، وجاء بها “مثلا” لم يكن له أي داع. وكانت المسرحية ستكون مقبولة اكثر لو انه اضطر الى تلك الحجة السخيفة بسبب محاصرته بسؤال مثلا. فلا احد يتبرع من نفسه باللجوء الى تلك الجمل الغريبة التي يصعب تصديقها، ما لم يكن محاصراً. . أن مدى العبقرية المخيف الذي يمتلكه من يسعى لتشويش الشعب العراقي، ومدى قدراته الإبداعية غير المسبوقة، يستحق التأمل ويثير القلق الشديد. إني لا استطيع ان اتخيل طريقة ليحمي المواطن نفسه من هذا الإبداع المتغير المتحرك المجدد لأساليبه سوى الحرص على الهدوء والشك وطرح الأسئلة الجيدة مهما كانت الصدمة الإعلامية التي يواجهها عقله، وهو طلب أعترف بأنه عسر التحقيق، بل يكاد يكون تعجيزياً. إننا نمر بوضع لم يسبق لشعب ان مر به، وقد وضعت عقولنا في مختبر اعلامي يكاد يكون مغلقاً، لم يسبق لعقول حرة ان وضعت فيه. فتلك الجهود الجبارة والأموال الهائلة المبذولة في الإعلام، والتكنولوجيا الهائلة أتاحت لمن يملكها أن يعرف فوراً ما يفكر به الناس ومدى نجاح او فشل اية حملة ودرجة تأثير اية عبارة ومدى انتشارها واتجاهه. فقد نشرت قبل سنوات مقالة مع فيديو يبين مدى تبادل اسم لاعب معين بين الناس بالتلفون والإيميل ووسائل الاتصال الاجتماعي، بعد تحقيقه هدفاً في مباراة، وأوضح الفيديو انتشار هذا الاسم بالدقائق على خارطة الولايات المتحدة! أي ان بإمكان التكنولوجيا متابعة مسار ومدى نجاح وسرعة انتشار أية عبارة بعد إطلاقها في الإعلام في أي بلد في العالم. وهذا ما يتيح لمن يمتلك تلك التكنولوجيا ان يطور اساليبه بسرعة كبيرة ليختار منها ما هو اكثر قدرة على الاقناع. يتيح له متابعة آنية للرأي العام، ولقتله أيضاً! . إن حملة “الارجنتين” الشيطانية لم يكن ممكن تحقيقها لولا التعاون بين التكنولوجيا، والسيطرة السياسية التي تتيح لأميركا تعيين من تشاء على قيادة البلد، إضافة إلى امتلاك وسائل الاعلام والاتصال فيه. هذا الحصار يجعل الإفلات، مهمة شبه مستحيلة على العقل الشعبي في أي بلد، وخصوصاً حين يكون محتلاً ومخترقاً كالبلد الذي يجد الإنسان العراقي نفسه فيه. فقد أتاح كل هذا لأميركا ومن يقود الأمور في اميركا، سيطرة غير معروفة على معظم ما يصل عقولنا وقدرة على استبدال الحقائق فيها بالأوهام، لم يسبق لها ان تحققت في التاريخ، إلا في التجارب على السجناء. . هذا يضع العقل العراقي أمام تحد جديد وصعب، في الوقت الذي يعاني فيه من تشويش شديد تحت تأثير الإعلام المعادي الذي يملأ بلادنا. لم يكن هذا التجديد الوحيد في بث التشويش بالتأكيد، بل يبدو أنه اتجاه عام في ذلك الاعلام في الوقت الحاضر. فقبل أيام قامت صفحة يعرف الناس انها إسرائيلية، تسمى “الخوة النظيفة” باستغلال كارثة طويريج لإثارة حملة طائفية بين الشيعة والسنة حول ضحايا الكارثة. ولم تقم تلك الصفحة مباشرة بإثارة الموضوع، بل وضعت الحادثة في منشور بدا حيادي تماماً. أما استغلاله فقد تم كما يبدو من قبل جيش كبير من حسابات المجندين المتقمصين للسنة، لتنزيل تعليقات تسخر من هؤلاء الضحايا!! . وقد اخبرني احد الأصدقاء الذين تابعوا الموضوع انه راجع العديد من تلك الحسابات فوجد معظمها مشبوهة وفارغة غالباً من الصورة الشخصية والمحتوى. ومعروف ان مثل هذه الحملة المجندة تستثير دائما اشخاصاً حقيقيين لتبني نفس الفكرة، خاصة أولئك القريبين منها، وفق حالة قطيعية معروفة نفسياً. ومثلما حققت حملة “الأرجنتين” نجاحاً ساحقاً بالنسبة للجهد المبذول فيها، فقد حققت حملة كارثة طويريج الشيء ذاته. . هذه النجاحات تعزى ليس فقط الى قوة الفكرة التي ابتدعتها المنظومة الإعلامية المعادية، وإنما ايضاً لأنها جديدة. وبسبب جدتها، فأن منظومة الوعي لا تدري كيف تتصرف معها. في حربهم للقضاء على الهنود الحمر في بداية احتلالهم لبلادهم، قام الأوروبيون بإهداء هؤلاء بطانيات ملوثة بالجدري. ولم يكن الهنود الحمر يعرفون هذا المرض، ولم يكن نظام مناعتهم يعرف جراثيمه، لذلك فقد تسبب في إبادة جماعية عظيمة لضحاياه. وبنفس الطريقة، تحقق هذه الإبداعات الإعلامية الشيطانية النجاح الكبير في غسل ادمغتنا وتوجيه تفكيرنا، دون ان يعرف وعينا كيف يواجهها، فتصيبنا بما يشبه “الوباء” الإعلامي. ما هو الحل؟ لو عدنا الى مثال الجراثيم، لوجدنا اننا نقوم بـ “تلقيح” الناس ضد الوباء بجراثيم معدة خصيصاً، لتكشف لجهاز المناعة نوعية الجراثيم المتوقعة وما تفرزه من سموم. وعلينا ان نجعل عقلنا واعيا للأنواع الجديدة من الجراثيم الإعلامية الخطيرة، وقادر على فرزها رغم الصعوبات الجديدة والقدرة الهائلة على التنكر بزي “العفوية” وبلوكات الصدمة والضحك وغيرها. ليس سهلاً، نعم. البقاء على قيد الحياة لم يعد سهلاً ايضاً بالنسبة للشعوب. . (1) عادل عبد المهدي: المخدرات تأتي للعراق من الأرجنتين – YouTube https://www.youtube.com/watch?v=1t1FKw9bIXY 2019-09-12%MCEPASTEBIN%