( بَكينّا وما تَبكي الرِجالُ ولَكن، يَلوذُ الفَتى بالدَمعِ إن لَمْ يَجدّ بُدّا./؟)
—— مايُشبه البَحث في بقايا الأقوال العالِقة بالذاكرة/١٥–
— الشعر العربي يومَّ تَحَدّثَ، وجَميلة بوحَيرد نَموذجاً —
رشدي رمضاني
~~~~~
(سَجنَ الأعادي بَطلةْ بلادي، لايوجد سِواها، كُلنا فِداها، كُلنا جَميلة. جَميلة
الصَبيّة الشُجاعة القَوية، فَدَّتْ الجزائر من أجل القَوميّة، الحُرّة العَربيّة. وردة)
~~ الأم تونسية أحبَت الجزائر وتزوجَت فِيهِ، وأنجَبا جميلة، وعندما تَعَمّقَت موجة رفض الأحتلال الفرنسي، كانت عام ٩٥٤ في صفوفها، ولعمل بطوليكبير حُكمت بالإعدام.
موقف المجتمع العربي وشعوب العالم، مُذهلاً يومها،
لجِهَة التعاطف والتأييد البارز. الإعلام العربي والكُتاب العَرب تفرغوا للأمر،فلاتجدُ كاتباً، شاعراً، أو مبتدءاً يَحبو، إلا ومَتعنا بقصيدة، أو عدَّة قصائد.
العراق تصدر الموقف إعلاماً وسياسيةً، الطائرات الأُوَل حَملت السلاح وكان يقودها الطيار حردان عبدالغفارالتكريتي.
أْعتبرته حكومة الجزائر مساهما بالثورة، ودفنت زوجته في مقبرة الشهداء، لتعذر نقل جثمانها للعراق وقتَئذٍّ.
العراق أول دولة أْعتَرَفَت بسلطة وحكومة الثورة، وذهب سفيرها بمصر الحبيبة ( الجمهورية العَربيّة المتحدة ) الأستاذ فائق السامرائي( وهو من كبار رجال القانون، وكان نقيباً للمحامين، ومن قادة الحركة القوميّة )، لمقرهم مهنئاً معترفاً بحكومتها، الممثلة للشعب الجزائري.
تَمَّ موقفاً متكاملاً بعلم وتوجيه رسمي من الدولة بالعراق، وسلطات ثورة ١٤ تموز، وقُرنت أجمل أحياء بغداد وقتَها بأسم — حي جميلة — ودُعيت الراحلة لافتتاحه.
علماً بان مَوجة الأستنكار لحُكمها أستوفَت مفاعيلَها وأُبدِلَّ الإعدام لثلاثة
سنوات وأُفرج عنها لاحقاً.
هذا الموجز يُتمَّمُ ببعضِ ما يَزال في الذاكرة،
لِمَوجَة التَعاطف الهائِلة… أدناه نَموذج لمقطفات تُضيء المشهد.~ ~ ” الإسمُ: جميلةُ بوحَيرَدْ.. رقمُ الزنزانةِ: تِسعُونا.في السجنِ الحربي بوَهران..والعمرُ اثنانِ وعشرُنا.
عينانِ كقنديلَيّ معبَدْ. والشعرُ العربيُ الأسوَدْ، كالصيفِ. كشلال الأحزان.
إبريقٌ للماءِ وسجَّان، ويدٌ تنضَمُّ على القُرآن.”” أنثى.. كالشَمعّةِ مّصلوبَة، القَيدُّ بعضٌّ على القَدمَين.
وسَجائِرُ تُطفأ في النَهدين، ودمٌ في الأنفِ، وفِي الشَفَتين.”هذا بعضٌ كثير القباني نزار توفيق. عوتِبَ من بعض النقاد لأنه تكلم عن المرأة بشهوة ودلال، لا للتحريض عَلَى الثورة. وهذا القولُ مُجحِفٌ بحَقهِ.
~ ~ السياب بدر شاكر، والَّذي أْعتبره النُقاد والمتابع لشعره، أهم ماقيل،
وأوصَل جميلة لمدى الأسطورة والآلِهة السومرية، ورمزاً للثورة العربية:
” الأرضُ أم أنتِ التي تَصرَخين، مشْبُوحَة الأطرافِ فَوقَّ الصَليب،مَشبوحَة العَينين عِبرَّ الظَلام يأتيك من وهران، ياللزُحام،
حَشدٌ مُشعٌ باشتعالِ الغَيبِ، يأتيكَ كُلُ الناس كُلُ الأيام،
يرجونَ مما تَبذلين، الطَعامَ والأمنَ والنُعماءَ والعافيّة،
.. عَشتارُ أُمَُ الخُصبِ والإحسان تلكَّ الرَبةُ الوالِهة،
لَمْ تُعطِ ما أعطيتِ، لَمٌ تَروِ بأنظارِ ما رَويتِ، قلبَ الفَقير.”
وبقولهِ المَوجوع يتحدث عن مجمل بلاد العرب، ويكمل الصورة:
” في مصر في سوريّة في العراق، في أرضكِ الخَضراء كانَ أْنعتاق.
بالأمسِ وارى قومُكِ الآلهة…”
~~ أم زكي لميعة، أْعتبُرت قصائدها خير منهج، أدان الأستعمار والظُلم،
وَلَمْ يَمُس الشعب الفرنسي، حيث ذهب للطرح العقائدي. وكانت قصائد كاظم جواد، صفاء الحيدري، والسماوي كاظم جاسم متميزة وآخرون،لكثرتها وسعتها، تعذر استِعابَها للنشر.
للشاعر المصري حسن فتح الباب، قصيدته كنموذج، بحروفِها المَفجوعَة:
” فرنسا كسجادةٍ باليّة تَضَاءَلَت، وانكمَشَتْ تَحْتّ وَقع الأحذيّة.”
~ ~ نازك الملائكة وبلغة مُختلفة، شابَها حُزن وعَتَب مَرّير، بإدانة للجميع:
” جميلةُ تَبكينَ خَلفَ المَسافات، خَلَفَ البِلاد،
وتُرخينَ شعركِ كفكِ دمعكِ خَلَفَ الوِساد،
أتبكينَ انتِ ؟ إتبكي جميلة ؟
أما مَنحوكِ اللحونَ السَخيّات والأغنيّات ؟
أما أطَعموكِ حُروفْ ؟ أمابذلوا الكَلمات ؟
فَفِيكِ الدموعَ إذن ياجميلة ؟.”
وتُكمل عتابها “وأنتِ حَملتِ القيودَّ الثَقيلة،
وحينَ تحَّرقتِّ عَطشى الشِّفاهِ إلى كأسِ ماءٍ،
حَشَدّنا اللُحونَ وقُلنا سَنسكِبُها بالغناءْ
ونَشدّو لَها في الليالي الطَويلة.”
~ ~ المصري نجيب سرور، المَسرحي والمؤلف والشاعر الكَبير الكفء.
قصائدهُ وقٌتَّها من أبرزِ كَتَبَ، وقصيدته المتميزة قالها عندَّ قرار أْعدامها صبيحة يوم الجمعة وكانت بعنوان ( الجُمُعةُ الحَزينّة ):
” غُفرانَكِ فالعينُ بَصيرَة.. وذراعي يا أُختُ قَصيرة،
والكفُ بها كلمات عَزاء.. لا تُجدي في يوم الجُمعة.
غُفرانَكِ.. إنَني لا أملكُ إلا شعري، وعذاباً يَنهَشُ في صَدري،
والحُمى، والحُزن الضاري، وسُعاري في يوم الجُمعة.
ولَقدّْ كُنتُ كَرهتُ الشعرَ، هَجرتُ الشعرَ،
من عامٍ لَمْ أكتبُ شعراً.. ما جَدواه ؟
ما جَدواه لبؤس العالمِ.. ما جَدواه ؟ “
ويضيف هواجسه والقلق، في موضع ومجال آخر:
” أنا أعلمُ كَمْ سيكونُ رَهيبًاً هذا اليوم،
مَلعوناً في أيامِ العُمرِ، مَلعوناً في كُلٍ زمانَ كَنَهار الصَلب.
سَيُزَفُ شبابُكِ عندَّ الفجرِ، برداءٍ قانٍ مثلُ الدمِ.”
~ ~ مُقتَطَف مُكثف جداً وجيز حدّ الأبتِسار، لتلّك الأيام وما كانت تَعنيّه، جميلة كرَمز إنساني وعروبي، للتّحدي والمُقاومة، وكيف أضطرَّت فرنسا بجَبروتِها وعَسفِها تلك الأيام، للتراجُع والتَخلي عن عُنجُهيتها والعَفو عنها.
وآخرُها سلاماً لأيام وحدّتنا ورموزها الراحلة، سلاماً جَميلة بو حيرد،
كنّا عُشاقكِ لأنكِ جسدتِ الشَجاعة والتَحدي ولأنك جميلة… رشدي.
2019-08-15