الديانة الجديدة!
ترجمة: أمية درغام
هناك في أوروبا والغرب عموماً، ديانة غير معلنة جديدة نسبياً، لها روايتها المقدسة التي لا يجوز أبداً التشكيك بها، إزاء جهوزية محكمة تفتيش- التي تخلص فوراً إلى الزجّ في السجن – أو تُفضي إلى التشهير بالشخص وفقدانه وظيفته وسد كل سبل الرزق والعيش بوجهه، وفوق ذلك لصق سمة الـ”التجديف” والكفر به مع ما يصحبها من شتى أنواع التهم والاهانات والأبلسة …
تُسمّى هذه الديانة بالهولوكوست.. ومهما كانت الدراسة، البحث، الملفات ، أو الشكوك بالرواية جديّة وعلمية .. لن يتغيّر أي شيء.. فأنت مسموح لك أن تفكّر بما يقدّم إليك. أي فقط الرواية التي يقدّمها من ربحوا الحرب وكتبوا الـ”تاريخ”.
في الغرب، يؤخذ أولاد المدارس كل عام إلى الـ”الحجّ” إلى مواقع تمّت هندستها وهندمتها خصيصاً لتصبح جزءاً من النظام التعليمي في عملية غسل دماغ منتظمة وممنهجة حيث يتلقّى التلامذة جرعات وافية وكافية من الخوف، الرعب والشعور بالذنب تجعلهم يتوقفون حتى عن التفكير في المسألة.. ليصبح التفكير يعني التشكيك بها… والتشكيك جريمة توازي ارتكاب الجريمة.
و عليك ألّا تتجرأ على اتّهام هؤلاء الذين لا يزالون حتى يومنا هذا يستفيدون من هذه الديانة المسمّاة ديانة- الأضحية، لأنك قد تكون كما لو أنك، تضيء الشعلة التي أحرقتهم مجدداً، فإن التشكيك بالرواية يساوي أنك تقوم بنفسك بهذا العمل المرعب الذي ليس بأقلّ من إعادة حرق الجماعة ذاتها . يُعتبر ذلك التدنيس الأقصى للمقدّسات، نبش ذكرى هؤلاء “الشهداء المحروقين”…
يُسمح لك أن تشكّك بالله، بالملائكة، بالخلق، بالنجوم، بأهمّ قيم الانسان، أو أي شيء تودّ التشكيك به ولكن ليس بـ”الهولوكوست”… إنها المأساة- الخدعة، العقيدة المبتكَرة الأكثر استغلالاً في التاريخ.
ففي حين أن الهدف الأساسي من الدين هو ربط الإنسان بنوره الداخلي وأن يكون نوعاً ما دليله لمعرفة الفرق بين الخطأ والصواب… ولإعطاء نوع من الراحة إزاء الشك، وبمعنى آخر إن الدين والإيمان ينبعان من قلب عدم اليقين، نجد أن دين الـ”هولوكوست” (المحرقة) هذا، على النقيض تماماً. هو اليقين عينه. جاهز ومعلّب لك، مع “حقائق”، “أحداث”، وروايته المبتكرة صُنعت لتكون بالظبط النقيض لهدف الإيمان.
لقد صنعت هذه الديانة لتضع الناس في الظلمة، ليس على صعيد وقائع التاريخ الحقيقي فحسب إنما لجعل الإنسان يشعر بضآلة في شعوره إزاء كرامته من خلال تثبيت الخوف فيه أو الشعور بالذنب واحتقار الذات أو كلاهما معاً.
ما قبل وما بعد النص:
كطفلة مولودة من أب وأم فلسطينيَين، هربا من الحرب ومن ثمّ حُرما من العودة إلى وطنهما، وبالتالي تمّ نفيهما عنه بالقوة، وهي مسألة أصبحت بديهة مفروضة على أراضينا منذ ذلك الوقت، فإن والدتي (أعتقد أن هذا كان هدفها) فكّرت أن عليّ أن أتعلّم عن مآسي أناس آخرين فاشترت لي كتاباً لأطالعه- وهو كتاب أرجّح أن كل شخص في الغرب حاز عليه في منزله- عنوانه “مذكرات آن فرانك”. جلّ ما أتذكّره (مع شعور بالانتصار) أنها كتبت عن سعادتها في ألمانيا وعدم رغبتها في الذهاب إلى فلسطين. لكن الخوف كان متربّصاً هناك في كل الأحوال، لم أكن أحتاج إلى جرعات إضافية منه. في الليل كنت أعاني من كوابيس حول سيارات جيب نازية تتجوّل في شوارع بيروت حيث ولدت، وكان علينا أن نكون حيث تمرّ، متمدّدين على بطوننا مع وجوهنا وأنوفنا ملتصقة بالأرض. كان عليهم التأكّد أننا لن نرفع رؤوسنا… وإلّا… ولكن في كوابيسي، سيارات الجيب النازية كانت “إسرائيلية”. كان يداهمني الكابوس نفسه بانتظام حتى بلغت الرابعة عشرة من عمري أو نحو ذلك؛ وحينها، في ليلة حلمت بهذا الكابوس، رفضت قدماي الرحيل، رفضت ركبتاي الركوع، لم أتمكّن من التمدّد ووجهي ملتصق بالأرض، لذا توقّفت السيارة العسكرية، فقد اكتشفوا رأساً، إنه رأسي.. استيقظت مرتعبة.
بعد مدة، عاودني الكابوس وبشكل غريب إذ انطلقت أحداث هذا الكابوس المتكرر من حيث استيقظت مذعورة في المرة الأخيرة. أنا واقفة.
ركن الجيب ونزل منه الجنود ومشوا إلى المدخل الخارجي للمنزل حيث كنا نقيم، كان بوسعي سماعهم لكن من دون خوف إنما بنوع من التسليم ، دقوا على الباب، فتحته، وها إنهم هنا، أربعة أو خمسة جنود. جلسوا على المقاعد العالية وحدّقت بهم لدهشتي “أيا إلهي إنهم بشر…” لاحظت ذلك وقد انتابني شعور بالإدراك وعدم الخوف. وانتهى الأمر هنا. لم يعاودني هذا الكابوس. على الأرجح ، لأنني اتخذت قراراً جوهرياً في داخلي، ألّا أركع لأية عقيدة مرتبطة بالخوف.
بوسعي تخيّل كل الناس المرتعبين، كلّهم من خلال آلية ترهيب تدفع بهم كما الأغنام، (كما نحن، الفلسطينيون، هربنا مذعورين) كما الماشية في أقبية السفن في طريقهم إلى فلسطين (أرض بلا شعب، نحن، الفلسطينيون، الـ”لا شعب”). لذا، إن هذه الديانة، ليست كما الديانات الأخرى، هي مزيج من الترهيب، الرعب والتابو (المحرّمات). لا يُسمح لأي كائن المساءلة في رواية “زبدة الرعب” (أقصى درجات الرعب)، ما يجعل من قصة صلب المسيح تبدو بالمقارنة معها كأنها مسرحية للصغار، وليس هذا وحسب، ولكن لها مفعولها كما لو أنها جدار ضخم وظلّ هائل، المقصود من هذا الظل أن يعتّم ويقلّل من هول أية جريمة أخرى يتمّ ارتكابها بعد المحرقة، فيحق للاضحية بكل شيء.
وإذا كانت جاندارك وغيرها من شهداء المسيحية وديانات أخرى، أصبحوا قدّيسين لأنهم تحمّلوا وعانوا ثمناً لإيمانهم، إن مجموعة كاملة من الناس بإيمان واحد- وليس من عرق واحد- أصبحت مجموعة القديسين الذين لا يمكن المساس بهم. لذلك، وعلى عكس الديانات الأخرى، التي لديها أفراد مجنّدين، إن مجموعة كاملة من الناس تمّ تجنيدهم كقدّيسين، ليس ليعطوا دروساً في القيم والشجاعة للبشر، وإنما لإعفائهم من التمسّك بقيم الإنسانية الأساسية.
من أجل دعم وحماية هذه العقيدة، كُتِبت الكتب، وتوالى إنتاج الأفلام، فيلما تلو الآخر، تبثّ دعاية سياسية صرفة، وقد أنشئت المتاحف لا لتذكير الناس بقيمهم العليا وإنما بسقوطهم. ونتج عن ذلك… أن انتقاد الضحايا المفترضين المُجمّعين على أراضي شعوب أخرى، هو أمر محرّم (تابو) يحميه القانون في بعض البلدان!
وبغض النظر عمّا يقومون به من سرقة، تدمير، طرد الناس من بيوتهم وأملاكهم، افتعال المجازر، قصف مناطق مدنية بالكامل، إنشاء فرق الموت، مرتزقة لزعزعة استقرار المنطقة التي يفرضون أنفسهم عليها وارتكاب التطهير الإثني، هدم النسيج الاجتماعي للعائلات، تفكيك المجتمعات، كل هذا الرعب الواقع الذي نشهده في منطقتنا بشكل يومي، تمّ التقليل من شأنه وحتى تبريره خلف هذا القدر الهائل من القداسة العائدة لهذا الدين الجديد من الرعب.
لا أعرف إذا كنّا سنشهد سقوطاً أو إنحطاطاً للإنسانية أكثر ممّا نشهده الآن.
لقد اصبح حقَّ الإنسان بالتفكير والتعبير مرفوضاً، والحق في الدفاع عن حقوقك الطبيعية والتاريخية في أرضك وممتلكاتك محظوراً ومشوّهاً، في حين أن المجرمين والمُفسدين يصولون ويجولون في هذه الأرض محميّين تماماً وأحراراً بالكامل.
رنده بيروتي