المراقب لتطورات الشرق الأوسط السياسية والعسكرية، بات يدرك بأن تركيا يكاد يكون لها تدخلات في كافة المسارات التي تتعلق بشكل مباشر بصيغ التوترات الشرق أوسطية، فمع بداية ما سُمي الربيع العربي، برزت تحديات كثيرة ومهددة باندلاع حروب كارثية، جراء الأجندات الأمريكية و الخليجية و التركية و مروراً بالإسرائيلية، و كلنا يذكر التطورات الشرق أوسطية التي رسمت بداية لمشهد جديد، هو مشهد لم يكن بمقدور أحد من المحللين التنبؤ به، ذلك بسبب جملة التحديات و التعقيدات مع تضارب الأجندات، والتي كانت تسفر و بشكل يومي عن تغييرات دراماتيكية في المشهد العام الناظم للشرق الأوسط، ليبيا ومنذ عام2011 تشهد حروب بالوكالة، و بعد الإطاحة بـ معمر القذافي و نتيجة العديد من الحروب الداخلية، تجسدت النتائج واقعا انفصاليا، ليبقى الفصيلان الأكبران هما حكومة الوفاق الوطني، التي مقرها طرابلس وتدعمها تركيا وقطر، والجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر الذي يتمركز في شرق البلاد، و يحظى بدعم سعودي اماراتي مصري.
كثيرة المواقف الدولية التي تؤسس بشكل أو بأخر للكثير من التعقيدات في الداخل الليبي، و انطلاقا من نظريات المصالح، تتصارع فرنسا وايطاليا على من يسيطر على موارد ليبيا النفطية، حيث تدعم إيطاليا حكومة طرابلس بينما تقف فرنسا مع روسيا إلى جانب حفتر، وتراقب واشنطن بقلق لمعرفة ما إذا كانت موسكو ستحقق مكاسب في هذا البلد، لكنها أحجمت حتى الآن عن دخول المعترك بأي قوة حقيقية، و وفي وقت سابق كان حلف الأطلسي القوة الضاربة التي تدخلت لتحقيق أهداف أمريكية، و لعل التدخل الامريكي اتخذ جوانب عديدة خوفا من استحواذ روسيا على المسارات السياسية و العسكرية في ليبيا، بمعنى أخر هناك الكثير من الأطراف الفاعلة و المنخرطة بشكل مباشر في الصراع الليبي، لكن ما يُمكننا تفنيده، بأن الصراع الليبي يأتي ضمن إطار محورين، الأول جماعة الإخوان المسلمين وما يتبعها من تنظيمات، وتحظى بدعم تركي و قطري و تتركز بشكل أساسي في طرابلس، و الثاني هناك المحور المدعوم من الإمارات والسعودية ومصر، وهي الدول التي تصارعت مع تركيا وقطر في ساحات عديدة في أرجاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لكن ضمن هذه الرؤية يبدو أن هناك تواطؤ دولي بإطار توافقي للممارسات التركية في ليبيا، بمعنى أنه سُمح لتركيا بتنفيذ أجنداتها في ليبيا لكن مع تركيز أمريكي على هذه الممارسات لوضعها في أطر المراقبة من أجل عدم السماح بخروجها عن السيطرة، وبصورة أوضح نعتقد أن الصمت الدولي عن الممارسات التركية هو بمثابة تعويض عن خسارتها في ملفات اقليمية هامة، على سبيل المثال سوريا، وبالتالي فإن التوافق الدولي الظاهري يبدو أن اعطى هذه الورقة لتركيا، من أجل الحفاظ على التوازن الدولي من جهة، ومن جهة اخرى ابقاء التوتر في الشرق الأوسط محافظاً على وتيرته بُغية ابقاء الهيمنة الأمريكية حاضرة في المنطقة.
في المقابل، تركيا و دورها في الصراع الليبي تعرض للكثير من الانتقادات من قبل حفتر وحكومته في طبرق شرق ليبيا، حيث أتهم حفتر بأن تركيا تقوم بتسليح جماعات متطرفة وتقوم بإرسال السلاح بشكل دوري لهذه المجموعات، كما أنه تم ضبط العديد من السفن المتجهة إلى ليبيا و القادمة من تركيا، خاصة أن الأمم المتحدة قامت بحظر تصدير السلاح إلى ليبيا، وهذا الحظر يصب مباشرة في مصلحة حفتر، على اساس أنه يحظى بدعم امريكي و توافق دولي، نتيجة لذلك، تم استبعاد أنقرة إلى حد ما من عملية السلام، كما لوحظ في نوفمبر الماضي خلال محادثات سلام في باليرمو بإيطاليا، وضعف موقف تركيا عندما أجبرت على الانسحاب من المؤتمر بعد عدم دعوة مندوبيها إلى اجتماع مهم.
تركيا التي اتخذت موقفا واضحا من الصراع الليبي، و فقدت مصداقيتها في الكثير من الملفات على مستوى الشرق الأوسط، و بالتالي لا يمكن لتركيا ان تقوم بإجراءات من شأنها أن تُغير الوضع في ليبيا، أو تغير موازين القوى التي يستحوذ عليها حفتر، لكن تركيا بإمكانها فقط أن تقوم بالعمل على زيادة التوترات و اشعالها، وما يعزز هذه الرؤية بأن غالبية الدول المنخرطة في الصراع الليبي تعتبر جماعة الاخوان المسلمين عدوا كبيرا على المستوى الإقليمي و الدولي، و تركيا تقوم بدعم كبير لهذه الجماعة، و عليه فإن تركيا تقود صراعات عابرة للحدود عبر جماعة الاخوان المسلمين، و هذا الأمر سيزيد من حجم التوترات في الشرق الأوسط كاملا.