ملف يوم الشهيد…. رسائل لم تصل بعد الى ستار غانم راضي (سامي)
أحمد الناصري
تحياتي وسلامي لك ومودتي الأكيدة.
أغبطك من بعيد وأنت تعيش بين لحظتين، لحظة التحفز والفرح بالعمل المجازف، وهي لحظة تجاوز المواقع والموانع والحواجز والوصول الى هدفك، وبين لحظة الخطر، ومعايشة الخطر اليومي الداهم، حيث تعرف أن الخطأ الأول هو الخطأ الاخير.
أعرف ذكائك النادر، وأقدر قدرتك الكبيرة في التحرك والتخفي واكتشاف الأساليب الجديدة في العمل، لكن الخطر قائم وداهم يا صديقي، والشراك في كل مكان، والمدن مغلقة بالمصائد، والشوارع مطوقة بالمراصد والعيون والعسس، والحرس القومي الفاشي مستنفر.. فيا لتحدي روحك الوثابة ويا لذهنك المتقد، وأنت تخوض الصراع المرير، الصراع القاتل، وربما المواجهة والصراع الأخير، بينك وبين العدو المدجج، لكن الخائف والمذعور.
كم كنت شجاعا في خيارك، أن تذهب إليهم، وتتحداهم في معاقلهم المحصنة، حتى لو كانت المواجهة فاصلة، أي إنها المواجهة الأخيرة.. فأنت كضابط المتفجرات تعرف السر الكامن بين يديك، أو بين ثيابك، لكنك لا تتوقف عن السير الحثيث نحو النقطة التي رسمتها بوعي خاص وعالي.
في لقائنا الخاطف بعد نزولك الى بغداد وعودتك الى شقلاوه تحدثنا كثيراً وبشكل مكثف ليل نهار، وناقشنا كل الأمور والأوضاع والتطورات، من وضع النظام وأساليبه وخططه، الى حالة الناس والجماهير وتوجهاتها، والعمل المعارض البطيء والمتلكأ ومشاكله وأزماته، وأساليب العمل الجديدة والمهمات المطروحة، والإنجازات البسيطة في بناء ركائز تنظيمية في بغداد والمدن الاخرى، والمخاطر المحدقة بالعمل اليومي المباشر، بعدها تعود الى بغدادك المحاصرة والمطوقة.
تتجمد تلك اللحظة لتثبت وتصير خالدة خلودك أيها الإنسان البسيط، أيها المقاتل الشجاع، أيها المنظم البارع، أنت وصبرك وعملك ومساهماتك المتنوعة والجميلة، وفي موقفك البطولي الأخير، وهدأتك الأخيرة، وفي هدوئك الطويل!
لازلت أجمع شظايا المشهد الاخير، وكل المشاهد الطويلة السابقة، والأحلام والرؤى والمسرات والأوهام والأخطاء والخطايا، لأضعها هناك قرب نصب المدينة الكبير لتكون شاهدة لك وشاهد لنا وعلينا!
– 2
ستار غانم راضي، بن هذا المكان والزمان، بن مدينة الثورة في بغداد، من مواليد 1954 لعائلة عراقية وطنية كادحة، خريج كلية الزراعة جامعة بغداد، اعتقلته السلطة الفاشية في مديرية الأمن العام سنة 79، وألتحق في نهاية نفس العام بحركة الأنصار التي بدأت تتشكل في جبال كردستان القصية، وبذلك يكون من أوائل الأنصار الذين تجمعوا وبدءوا التجربة الجديدة، بكل الآمال العريضة التي كانت معقودة عليها لتقويم وتصحيح تجربة التحالف الذيلي البائسة والأخطاء السابقة، وحماية جسد الحزب من المذبحة التي اجتاحت الوطن، وساهم بجدية كبيرة في العمل السياسي والفكري والعسكري، كما ساهم في المطالبة الحزبية الواسعة في نقد وكشف الأخطاء الفكرية والسياسية في تجربة الجبهة الوطنية والتحالف الذيلي مع الفاشية، وتحديد المسؤولية الشخصية والجماعية لمن رسم وحدد تلك السياسة من قيادة الحزب، كما عمل على رسم سياسية ثورية جديدة للكفاح المسلح منذ البداية، وتجاوز الأخطاء الفكرية والسياسة والعسكرية الجديدة، وذلك من خلال طرح برنامج جديد ورؤية جديدة تقطع مع أخطاء الماضي المرير.
تعرفت على سامي، وهذا أسمه الحركي الشهير في كردستان في تموز 1980 بعد وصولنا من منطقة هورمان-هيرتا وقاعدة السليمانية الرئيسية، في أول مفرزة للسلاح، التقيت به مع عدد كبير من الرفاق والأصدقاء في منطقة ناوزنك وتوزله ونوكان وزلي، وقد امتدت علاقتنا وتطورت وتعمقت حتى اختفائه المأساوي القسري، وقد شكلوا فصيلاً عسكرياً، باسم فصيل بغداد، يظم في صفوفه أغلب الرفاق القادمين من بغداد وبعض مدن الوسط والجنوب، وكان فصيل بغداد يعد نموذجا رائدا لحركة الأنصار الحديثة وآفاقها الواعدة، لانه تكون من الشباب الرائعين المتحمسين للعمل والواعدين بمستوياتهم الفكرية والسياسية والعسكرية وقدرتهم على التطور السريع، في ظل ظروف النكسة الجديدة والإحباط العام والبلبلة الفكرية والتنظيمية السائدة في الوسط الحزبي وفي صفوف الحزب.
كان سامي من أبرز الشباب في نشاطه وآرائه النقدية الجديدة والجريئة، ودارت بيننا نقاشاً طويلاً وجدل حامي عن تجربة التحالف الذيلي الفاشلة التي تركناها خلفنا، وحالة ومصير الحزب ومحاولة تشخيص الأخطاء الفكرية والسياسية والتنظيمية والجماهيرية التي حصلت، من عدم وجود خطة طوارئ للانسحاب وتقليل الخسائر الدامية، وإفشال خطة الفاشية في تحطيم جسد الحزب والحركة الثورية، وإعلان انتصار الفاشية النهائي والنوعي بصعود المجرم صدام حسين الى الموقع الأول في مؤسسات الحزب والدولة، كما طالبنا بتحديد المسؤولية الفردية والجماعية لقيادة الحزب ومحاسبة العناصر الخاطئة، كخطوة أولى لابد منها لانطلاق العمل الجديد، وقد ساهم في هذه الحوارات والمناقشات في وقت مبكر عدد كبير من الرفاق، كان من أبرزهم الراحل عبد الرحمن القصاب (أبو أحمد) والرفيق عادل سفر(أبو شاكر) وعدد من الكادر الثوري، وقد جرى تبلور خط فكري واسع يطالب بمعالجة ألازمة الجديدة التي يمر بها الحزب والحركة الشيوعية في بلادنا، ورسم سياسة سليمة أخرى، بعد محاسبة وعزل العناصر اليمينية التقليدية، وإعادة بناء التنظيم في داخل الوطن، على أسس سليمة ليكون قادر على قيادة العمل الصعب والنوعي الجديد، لمواجهة أساليب وخطط الفاشية الشرسة.
حول هذه القضايا الرئيسية والحاسمة، دار الصراع الفكري، ومن هنا بدء الاستقطاب والفرز والانقسام داخل قواعد الأنصار التي بدأت بالتكون، وخاصة في قاعة ناوزنك باعتبارها القاعدة الرئيسية، ولوجود بعض العناصر القيادية وبعض من العناصر الكادر المتقدم الذي وصل من الداخل والخارج، وكان سامي يلعب دور المحرك النشيط لهذا العمل، يقوده بهدوء ودراية كبيرة وبشجاعة وجرأة نادرة ضد العناصر اليمينية المتخلفة والمتهافتة والتقليدية.
لقد قررنا خوض نضال فكري وسياسي علني، بينما لجأت القيادة اليمينية الى أساليب بوليسية، تتمثل في المراقبة والتجسس وتشجيع الوشاية وجمع المعلومات عن الرفاق وآرائهم وتهديدهم بالتصفية والقتل والشراء وتكوين البطانات والإغراء بالزمالات والمنح الدراسية والتسفير الى الخارج والترقية الحزبية. ثم جاءت مجزرة وكارثة بشتآشان لتصعد الصراع وتنقله الى مستويات جديدة، بسبب مسؤولية القيادة عن الفشل في مواجهة الكارثة والتصدي لها، وتجدد عجزها وفشلها وتخلفها عن فهم الأحداث والتطورات الجارية في كردستان. وبعد أحداث بشتآشان الثانية والخسائر والفشل الجديد، وخروج وهروب وانسحاب المئات من الرفاق الأنصار الى الخارج، مع تشكيل قواعد متباعدة ومبعثرة، في هذه اللحظة استغلت القيادة اليمينية الفراغ الحاصل وانكشاف الرفاق لها، أنقضت على المجموعة التي تقود الصراع واعتقلتهم في ظروف قاسية وغريبة، وكان من بيننا سامي، وقد فقدنا الشهيد البطل مشتاق طالب عبد الله (منتصر) تحت التعذيب الرهيب والقاسي في يوم 5 آذار عام 84. وخرجنا من المحنة الجديدة بموقف ثابت ومتطور، وتجربة متزايدة ومعمدة بالدم الطاهر لمنتصر، عدا عنصر واحد تراجع تحت التعذيب والتهديد والضغط، ليتنازل عن قناعاته وادعاءاته ويعلن التوبة والخنوع، خوفا من تهديدات لجنة التعذيب والتحقيق الخاصة والواسعة الصلاحيات.
تم إطلاق سراح سامي ورفاقه في حزيران عام 1984، بعد ستة أشهر من الاعتقال الدامي، وتم طردنا خارج حدود وطننا الى إيران، في التباس غريب ومتناقض لا يمكن تفسيره أو تبريره في كل الأحوال، إلا من باب الانتقام الضيق والمتخلف، وقد رفضنا تسليم أنفسنا الى إيران وتمكنا من التسلل الى أرض الوطن وعدنا من جديد، ووصلنا الى منطقة قرداغ تحديدا، حيث بدء سامي نشاطه الفكري والسياسي الجديد وأصدر كراسا هاما جدا عن (تجربة الكفاح المسلح)، سجل فيه تقيمه للتجربة الأنصارية منذ بدايتها حتى نكسة بشتآشان، وساهم في كتابات أخرى عن الحرب العراقية الإيرانية، تضمنت آراء وطنية جديدة ومختلفة في بصدد الحرب الكارثية الطاحنة والموقف السليم منها، وتلك المشاهد التي تداخلت وتناقضت فيها المواقف الوطنية، بعدها انتقلنا الى منطقة سركلو وبركلو في جبال السليمانية، وعشنا وسط المخاطر الرهيبة، من قصف يومي بالمدفعية والطيران وانتشار شبكة قوية وفعالة من المندسين والجواسيس عملاء المخابرات العراقية، وأعمالهم التخريبية، من تفجيرات واغتيالات وحشية ودس سموم الثاليوم الشهيرة القاتلة في المواد الغذائية والأدوية، والتي راح ضحيتها العشرات، وجرى اعتقال أعداد من الذين بثوا هذه المواد القاتلة في المنطقة.
ثم تركنا مناطق (سركلو وبركلو وياخ سمر) بعد معارك دابان الشرسة واجتياح الجيش الحكومي لها، حيث تقهقرنا مرة أخرى الى منطقة نوكان، على الحدود العراقية الإيرانية، أي الى نقطة الصفر والبدايات الأولى. في نوكان جدد سامي عمله الفكري والسياسي، وأصدر عدد من الكراسات تناول فيها موضوعات أساسية في عملنا وتوجهاتنا الفكرية والسياسية الجديدة، ومنها كراس (رد على تقييم انتهازي)، وهو رد على تقييم القيادة اليمينية، الذي صدر عن المؤتمر الرابع، وكتابات عن المهام الوطنية والديمقراطية، وموضوعات في التنظيم، وبدأ يفكر جديا للتوجه نحو الداخل الصعب الذي كان يبدو مغلقا ومستحيلاً من معزلنا الجبلي البعيد، وكان قد أستطاع التسلل والوصول الى بغداد عدة مرات من قرداغ وسركلو وأقام عددا من الركائز التنظيمية البسيطة ومحطات الاتصال والإعلام والبريد.
أستمر سامي في عملة الدؤوب والحثيث رغم المخاطر اليومية الكبيرة، ورغم الهزيمة الشاملة والساحقة، والانحسار للحركة المسلحة بعد عمليات الأنفال القذرة، والاجتياحات العسكرية الدموية الشاملة للقرى والجبال وصولا الى الحدود الدولية مع إيران وتركيا، مدعومة بعشرات الآلاف من جحافل الجيش والمرتزقة (الجحوش) وجندرمة الدول المجاورة.
رغم كل تلك الظروف القاسية والعصيبة، ظل سامي متماسكا ومتفائلا وصابرا يتطلع الى حلول عملية ومجالات أخرى، ويحاول أن يدرس المأساة الجديدة والتحولات الشاملة التي جرت بعد توقف الحرب العراقية الإيرانية في آب عام88، وانطلاق عمليات الأنفال وحرب الإبادة الجماعية ضد شعبنا الكردي، وقد بدا لحظتها إن كل شيء قد انتهي ونجحت الفاشية في مخططها التدميري العنصري الشامل، وساد اليأس والقنوط أوساط كبيرة من السياسيين والناس العاديين.
بعد نجاح عمليات الأنفال تجمعت الأحزاب الكردية كلها تقريبا في منطقة نوكان وهي بقعة صغيرة ضيقة، حتى إن المقار كانت متداخلة مع بعضها البعض، مع بقايا البيشمركة، وكان نشاط أجهزة النظام الإرهابية مكثفا وخطيراً للقضاء على البقية الباقية، ومحاولة اصطياد بعض العناصر والقيادات النشيطة والفعالة، وقد تمت تصفية الرفاق سالم وزهير في نوكان على أيدي عناصر المخابرات، وهما رفيقان من تنظيم (الشيوعيين الثوريين)، وكان لهم مقراً هناك. في هذه الأوضاع الغامضة والصعبة، حصل تطور دراماتيكي قلب كل الأوضاع القائمة رأساً على عقب وغيّر الحالة السياسية وخرائطها الموجودة قبل ذلك اليوم، وكان الحدث الكبير والخطير دخول النظام العراقي الى الكويت واحتلالها في يوم 2 آب عام 90، ونشوب حرب الخليج الثانية، وانطلاق الانتفاضة الشعبية المجيدة. وقد شارك سامي بفعالية كبيرة في الأحداث، ووصل الى كركوك وساهم في معارك طرد النظام، وكتب العديد من البيانات والنداءات والرسائل والمقالات حول الانتفاضة وأساليبها وآفاقها باسم مجموعة (الشيوعيين العراقيين)، ثم كتب فيما بعد عن أسبابها ونتائجها ودروسها ونواقصها وأسباب تراجعها وسقوطها، وأنسحب مع المنسحبين من كركوك الى الحدود الإيرانية في المسيرة المليونية الشهيرة، وبعد استراحة قصيرة من التعب والمرض ومحاولة دراسة وتقييم التطورات والأوضاع الجديدة، أتخذ قراره الشجاع والخطير في التسلل الى بغداد تحديدا، وفق توجه جديد وتحليل جديد يقوم على أساس منع السلطة من ترتيب أوضاعها، ومحاولة الاستفادة من النتائج الكبيرة والكثيرة التي أفرزتها الانتفاضة والبناء الميداني عليها، والقيام بنشاط فكري وسياسي وجماهيري وأعلامي، والإعداد للعمل العسكري الذي يستهدف مؤسسات السلطة القمعية وأزلامها، وساهم في تأسيس وقيادة لجان الانتفاضة الشعبية، وقد نجح في أقامة ركائز تنظيمية وخيوط فعالة في بغداد والمدن الأخرى، وساهم في تجميع كادر سياسي وتنظيمي وأعلامي، وأستطاع تأمين عدد من البيوت السرية وأجهزة طباعة بسيطة، لكن متكاملة، الى جانب مستلزمات العمل السري الأخرى.
وقد أتخذ أسما سرياً جديداً في بغداد، وبدء يرسل المراسلين الى كردستان، ويشرح تصوراته وآرائه الميدانية عن النظام وخططه وأساليبه الوحشية في قمع الناس، وإمكانيات العمل في بغداد والأخبار المهمة، وموقف الناس وحياتهم والحصار الذي بدأ يفكك ويخرب الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ثم عاد الى كردستان والتقينا في شقلاوة، وقد درسنا كل التطورات والأوضاع والأخبار العامة والخاصة وإمكانيات العمل ومخاطره، وكان ذلك آخر لقاء تم بيننا، وآخر نقاشات معمقة وجادة للوضع في بلادنا، حيث أختفي بعد ذلك، ولم يعرف مصيره الى الآن رغم كل المحاولات والجهود التي يبذلها رفاق وأصدقاء سامي منذ سقوط الفاشية!
لقد كانت حياة رفيقنا سامي سريعة وخاطفة لكنها مليئة بالمثابرة والمواجهات المتنوعة والاكتشافات والمخاطر، فهو مثل نجم باهر سطع واختفى، وهو لم يرتح يوماً في حياته القصيرة، ولم يعرف المسرات، فقد ألتحق بالجبل فور تخرجه من الجامعة وإنهاءه للخدمة العسكرية، ليخوض تجربة مرة، فيها الكثير من المفارقات القاسية والمجازفات والتعب، بعدها تصدى لمهمة خطيرة، وهي العمل السري في داخل معاقل الفاشية، ليختفي وتختفي آثاره بهذه الطريقة الغامضة والمأساوية، لكنها تبقى بطولية وأسطورية وخارقة بكل مقاييس الشجاعة والإقدام والمبادرة. وظل سامي صامتاً وصامداً مدافعاً عن شعبه وكادحيه الذين هو واحد منهم، حيث لم يكن يملك شيئا ولا يملكه شيء مثل المتصوفة، وظل دون بيت خاص، دون زوجة أو أطفال، ودون أي شيء خاص آخر، عدا قناعته، وحلمه الثوري الجميل، وصلابته النادرة، في هذا الزمان الرخو، وهو مفخرة من مفاخر شعبنا وحركتنا اليسارية الثورية، وقد ساهم سامي ودفع حياته، في الجهد والعمل من أجل إسقاط الفاشية المقيتة المتخلفة، دون أن يهرب أو يتراجع أو يتوقف.
لقد فقدت صديقي الغالي والمتميز سامي منذ عام 1993، وبينما كان سامي في الجب يواجه المحنة السوداء، بإنسانية خاصة، وصلابة لا تنكسر ولا تنهزم، وبطولة عجيبة تعكس طينته وقناعته الثابتة التي لا تهزم، فمن المؤسف أن أسجل هنا، بينما كنا نحاول متابعة أخباره من بغداد المحاصرة بكلاب الفاشية المسعورة، بغداد البعيدة، ونحاول أن نلتقط أي خيط يدلنا على سامي أو جدثه او مصيره أو بقايا قميصه أو رائحته، كانت بعض عناصر اليمين الانتهازي تبث وتسرب معلومات سقيمة تافهة عن وضع وهمي لسامي المحاصر أو المقتول، في محاولة لتشويهه حتى يقتل مرتين، وربما وفي لحظة إطلاق الإشاعة، كان سامي في غرفة الإعدام يواجه الموت، أو قد أعدم فعلاً، فقد جاءني أحدهم و(هو من العناصر المشكوك في نزاهتها) ليبلغني معلومات تافهة وسقيمة عن سامي، يومها لذت بالصمت لحين تكشف الحقيقة، ويخرس المتكلم وتنكشف دوافعه الدنيئة، ثم عاد نفس هذا العنصر ليبلغ صديق آخر بمعلومات تافهة أخرى من نفس النوع.
لقد كان موقفنا مبدئيا وإنسانيا وأخلاقيا ثابتا إزاء حالات اعتقال الرفاق المتسللين الى الداخل، وكنا نشعر بالحزن والصدمة للحالات الكثيرة التي أكتشفها العدو وسقطت بسهولة ويسر بيده، وكنا نسكت حتى عن العناصر المنهارة والمتعاونة مع النظام، ونحن نعرفهم بالأسماء ولم نشهر بهم، ولم نختلق القصص حولهم، تقديراً منا للظروف التنظيمية والإنسانية الخاصة والقاسية، والأهوال التي تعرضوا لها، والأخطاء التي مروا بها، ولكن ماذا نفعل أمام هذا السلوك المشين، وأمام هذه التربية الهابطة التي تخدم العدو دائما؟
لقد سمعت من صديق قريب جدا، بأن الحزب الشيوعي العراقي يرفع صورة سامي في المقر العام في بغداد الى جانب شهداء الحزب، وأنا لست متأكد من الخبر تماماً، وهو أمر طبيعي وجيد ولا اعتراض عليه، فسامي شهيد الشعب العراقي، وشهيد الحركة الشيوعية العراقية، ولكن الاعتراض والمطالبة تنصب على ضرورة أن تتقدم قيادة الحزب الشيوعي بالاعتذار العلني والرسمي لعملية اعتقال سامي ورفاقه، والتي نتج عنها استشهاد منتصر على أيدي عناصر ثبت ارتباطها بالسلطة من خلال الوثائق المكتشفة، وخاصة من حرّض على الاعتقال والتعذيب، ومن مارس التعذيب فعلياً بقسوة ووحشية ودونية، قبل أن تعلق صورته، وهذا من الأصول الضرورية. حيث إن هذه القضايا لا تسقط بالتقادم أو الإنكار، ونطالب بفتح ملفات القضية فورا، لقد سكتنا في السابق خوفاً من تفسير عملنا بأنه يخدم السلطة الفاشية، رغم ضعف هذا التفسير، والآن وقد سقطت السلطة وشماعاتها.
لقد كان سامي نزيهاً وطيباً، يحب رفاقه وأصدقاءه، ويساعدهم ويحاورهم، ويمزح معهم مزحا بريئاً، ويعمل لهم المقالب الصداقية البسيطة، وكان يقول لي مازحاً بأنه سيترك العمل السياسي في أول يوم من بلوغه الخمسين من العمر، ويتفرغ للزراعة والفلاحة وتربية الدواجن، والعمل الفكري والبحوث والعائلة القادمة. ورأيه هذا ناتج مما يراه في حالة بعض القياديين، وقد بلغوا من العمر عتيا، وبدأت تظهر عليهم حالات الذهان وفقدان الذاكرة وبدايات الزهايمر والارتعاش وأوجاع المفاصل والسعال الدائم، مع الإصرار على الاستمرار والتمسك بخشب الكراسي المتآكل والمهتز، ضد منطق الحياة.
ها أنت تقترب من خمسينيتك الأثيرة والتي لم تبلغها جسديا، فقد أجبروك على الرحيل المبكر دون طلب من الحياة نفسها، بل بسبب ممن هم ضد الحياة وسارقيها، كم أتنمى أن لا يكون هذا رثاء، وأن تتحقق معجزة ما وتظهر بيننا لأنني لم أقفل الخط معك، ولم أستسلم لقدر قاسي صنعه شيطان الفاشية البغيض.
3 – لحظة ما
الى سامي
آه لو كنت حياً
آه لو إن عقلك أكمل دورة استنطاقه
آه لجسمك النحيل معلقا كالخيط
لقميصك دون ألوان
لفقرك الدائم
لأيامك المالحة
لحبك للدنيا والناس
أهدي دمعي، أهدي فرحي…
أهدي انتظاري المفتوح
لوريدك المذبوح
فكم أتعبني ذاك الصديق الذكي، ذاك الصديق الودود.
………..
عشنا في عراء الكون، في لحظة الوحشة النائية،
العيش بلا مكان، حيث العراء عارياً كالأبد…
والدنيا بدائية التكوين والكون منسيا
كنا بلا وقت
بلا أسيجة أو حدود
بلا طرقات أو مدن
كأننا نعيش مع المطلق
ونموت بلا مواعيد أو أضرحة نموت بلا شاهدة.
…………..
كم تمنينا أن نكون معاً
أن نركب الباص العمومي معاً، أن نشاكس النساء الجميلات
أن ندخل البار المفضل في مدينتنا البعيدة
أن تلامس أقدامنا ترابك يا بغداد
لكننا التقينا في هامش رطب
ثم هوينا في عتمة السنوات
نتنفس من ضوء الإعشاب ونتدفأ على كومة من قش الطبيعة
ونسافر دون جوازات أو أختام لحكومات تكرهنا
ونحن نراقب الجنود
ونراقب الحدود ونتابع السير الحثيث الى المجهول!
…………………..
كنت أنت المبادر
وأنت المثابر
والصموت
وأنت النبيل
وأنت الجميل الجميل.