ديوان «كأنّي لم أتغرّب يوماً» للشاعر بسّام دهيني يسدل شراع الحنين
رنا صادق
استوقفني برهةً، قبل الشروع في قراءة ديوان «كأنّي لم أتغرّب يوماً»، بغلافه الساطع الزرقة، ما بين الفاتح والداكن، إذ نجد على حافة الغلاف، حيث يتمركز الإبهام لفتح الأوراق وتصفّحها، تلك السفينة التي تسدل شراعها متوجّهةً نحو البعيد، مع المرساة التي تظهر في وسط الغلاف، وأفق البحار والأمواج.
أهي الغربة أم العودة؟ أم هي الحنين وذاكرة الوطن؟ أم أنّها الغربة في بحر الماضي وذكرياته وآلامه؟ هذه التساؤلات كلّها يطرحها القارئ على نفسه قبل الغوص في ديوان الشاعر بسّام دهيني «كأنّي لم أتغرّب يوماً» الصادر عن «دار نلسن للنشر».
إذا مزجنا عنوان الديوان بصورة الغلاف، تشكّلت لدينا روحية الكتاب وفحواه الأخيرة، التي تصبّ في إدراكات الشاعر العاطفية، النابعة من تجربته الخاصة، وذاتيته، عبّر عنها دهيني كتابةً شعريةً بأبيات نثرية يطغى عليها العتاب، الفراق والنداءات. عنوان القصيدة ينشّط التوقّعات في ما يتعلق بموضوع القصيدة، وطبيعة العالم الذي تقدّمه. هذه التوقعات تتشكل نتيجة عملية ملء المعنى الذي يحدثه وجود كلمة «الاغتراب» في العنوان.
لغة النثر التي يتحدّث بها دهيني غايتها إيجاد فرصة للتعبير الشعري عمّا مرّ به الشاعر من معاناة وتجارب بتصاميم شعرية تتّسم بالكثافة والشفافية، بعيداً عن الأوزان الموجودة في القصائد التقليدية. فالقصائد في الديوان تشير إلى نفسها بذاتها.
يضمّ الديوان سبع عشرة قصيدة مكثّفة، كلّ منها تحكي تجربة خاصة مرّ بها دهيني. وتميّزت كلّ قصيدة بالقدرة على تصوّر الأحداث بإطار شعري فنّي حرّ في الخطّ الذي يحدّده الشاعر. تحتاج كلّ قصيدة إلى التروّي والتأمل ليتمكّن القارئ من لمس مكنوناتها ومضامينها التي تتبعثر بين الغياب، والذات والعناء. من بينها قصائد: «خانني ظلّي وغاب»، «مواسم الشكّ»، «الفرح ليس مهنتنا»، «على أعتاب مرثاة»، و«أمضي غريباً».
تقوم قصيدة «كأنّي لم أتغرّب يوماً» على خلق عالم خاصّ، إزاء العالم الحقيقي الذي نعيشه. إن عالم القصيدة له منطقه وقوانينه المغايرة لعالمنا الذي نعيش فيه. ففي عالم القصيدة تستمدّ الكائنات حيواتها بالرسم. أما في عالمنا المعاش فتستمدّها عبر التناسل أو التكاثر. وعلى ذلك فإن جميع الأفعال داخل القصيدة حقيقية، فالوقت الذي يبدَّد ليس هو الوقت المعنوي الذي نعرفه.
الصورة الشعرية
غلبت صيغة المضارعة على أبيات القصيدة، التي أكسبت القصائد رونق الحيوية والتجدّد والآنيّة، الأمر الذي يجعلها صالحة لكلّ زمان ومكان، فاستخدم الشاعر في قصيدة «كلّ على قدر صمته»:
ما زلنا نستحمّ بماء الحكايات
ونعدو خلف السراب
ظلّاً يغنّي للشمس.
كثرت في القصيدة التشابيه والاستعارات والكنايات، التي تحتاج إلى التفكيك والترميز، وإعطائها معنى في أرض الواقع كي يتعيّن على القارئ المتابعة والفحص الجيد للقصيدة، ويقرّب التصورات الذهينة الشعرية لدى دهيني، ويعزّزها. مثالان:
تمتطي صهوة الريح
وتعدو القطارات الحزينة
كالغيم على أجنحة الضباب.
أُسرج مراكبي للمنفى
متيقناً
قد أسلمت روحي
إلى موت مؤجّل
قبل عبور الحياة.
سيرة ذاتية
قريته منبع دهشته الأولى، إذ تغرّب عنها، وعندما عاد زاد اغترابه، فهو يحنّ إلى العزلة ومنابع الفرحة الأولى. لم يكن يريد لتلك القرية أن تتمدّن، لذا عايش الغربة غربتين.
طفولته كانت شاقّة، مسؤولية مبكّرة ورجولة قبل أوانها، أقلقه مشهد الحرب، والتاريخ الذي يعيد نفسه، وكلّ أمر يعيد نفسه.
عندما حاول التماهي مع ذات ثانية غير ذاته، يقول دهيني في قصيدة «كأنّي لم أتغرّب يوماً» إنّه فشل، فكان كمن لم يتغرّب يوماً.
بناء القصيدة
بناء القصيدة بناء نفسيّ، يعكس تنامي التجربة وتتالي الانكسارات، وفهم المحيط على نحو أعمق. لذا يبرز ذلك في هيكليتها، وتنتهج صوَر التآكل الداخلي، ومحاولة فضّ حجب النفس ومواجهة الحقيقة لمرّة واحدة ولو شعرياً.
هيكلية النصّ هيكلية كشفية تفضح الأجوبة التي لطالما خبّأها الشاعر بسّام دهيني عن نفسه.