في مقبرة مقاتلي الحريّة الجزائريين، يرقد جثمان الطبيب والمنظّر السيّاسي والإجتماعي، المناضل فرانز فانون الذي اشتهر بنضاله من أجل الحرية وإلغاء التمييز العنصري.
ولد في جزر المارتينيك، في 20 يوليو 1925، وتوفي في 6 ديسمبر 1961.
سنوات عمره القصير(36 عامًا) كانت كفيلة بتسجيل اسمه في قائمة أحرار هذا العالم.
خلال الحرب العالمية الثانية، حارب في صفوف جيش فرنسا الحرّة، ضد الغزو النازي لفرنسا.
تخصص في الطّب النّفسي، ثمّ ترأس في فترة الإستعمار الفرنسي، قسم الطبّ النفسي في مستشفى البليدة ـ جوانفيل في الجزائر.
انخرط في صفوف جبهة التّحرير الوطني الجزائرية سراً، ثم انتقل وعمل طبيبًا ومحرّرًا في صحيفة “المجاهد” الناطقة باسم الجبهة، كما تولى مهام بالغة الدّقة كان آخرها، توليه منصب سفير الحكومة الجزائريّة المؤقتة في غانا سنة 1960 قبيل إصابته بسرطان الدّم ورحيله .
يعتبر كتاب “معذبو الأرض” أحد أهم المراجع الثورية في العالم. عاين فانون علاقة المستعمِر بالمستعمَر عن كثب وشرّحها وحلّلها تحليلًا دقيقًا شاملًا في كتابه مبينًا كيفيّة مواجهة الاستعمار على كافة المستويات القومية والنّفسية والعسكرية والاقتصادية. قدّم للكتاب، الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر، وقد صدر الكتاب بالعربية في أكثر من طبعة، وترجم إلى العديد من اللغات الحيّة.
في مقدمة كتاب “معذّبو الأرض”، يقول سارتر:
ليس للمستوطن المستعمِر إلا ملجأ واحدًا يتمثّل في القوة، حين يفقد الأمل، وليس للساكن الأصلي إلا أن يختار بين العبودية والسيادة.. إنّ العنف الاستعماري لا يريد المحافظة على إخضاع هؤلاء البشر المستعبدين فحسب، وإنما يحاول أن يجرّدهم من إنسانيتهم، لذلك لن يدخر جهداً من أجل أن يقضي على تقاليدهم، ومن أجل أن تحلّ لغتنا (الفرنسية) محل لغاتهم، ومن أجل أن يهدم ثقافاتهم دون أن يعطيهم ثقافتنا.
لن يملّ من إرهاقهم نفسيًا، فإذا ظلوا يقاومون رغم الجوع والمرض، يلجؤون إلى سلاح التخويف لإنجازالمهمة: سوف تصوب بنادقهم نحو الفلاح، ويأتي مدنيون فيستقرّون على أرضه، ويكرهونه بالسياط على زرعها لهم، فإذا قاوم أطلق الجنود النار، فأصبح ميتاً، وإذا خضع انهار ولم يعد إنساناً، لسوف يمزق العار والخوف روحه، ويحطمان كيانه، كلّ ذلك سيتمّ تحقيقه على أيدي خبراء اختصاصيين.
تعلّموا من فانون لتدركوا أنّ جنون القتل إنّما هو الشعور الجمعي للمستعمَرين في زمن عجزهم وأنّ سلاح المقاتل هو إنسانيته.
إنّ هذا الإنسان الجديد (المضطهد) يبدأ حياته من نهايتها، يعتبر نفسه ميتاً بالقوة، لسوف يُقتل، لأنه لا يرتضي أن يعرض نفسه للقتل فحسب، بل هو موقن أنه مقتول لا محالة، إنّ هذا الميت بالقوة قد فقد زوجته وأبناءه، لقد بلغ من فرط رؤيته لاحتضار الآخرين أنه لا يريد أن يعيش بقدر ما يريد أن ينتصر، غيره سيستفيد من النصر، لا هو، لقد سئم هو، لكن هذه السآمة هي مصدر شجاعة لا تصدق.
إن لكل إنسان أن يقود أفكاره كما يشاء، لكن شريطة أن يفكر.
لو لم يوجد الإستغلال والإضطهاد في الأرض، فإنّ اللاعنف الذي تنادون به قد ينفع في تهدئة الصّراع، أمّا وإنّ النظام كله، وحتى أفكار اللاعنف التي تنادون بها، هي نتاج اضطهاد عمره آلاف السنين، فإن سلبيتكم ستضعكم في صفوف المضطهِدين.
الأوروبي لم يستطع أن يجعل نفسه إنساناً إلا بخلق عبيد ومسوخ. ولم تنكشف هذه الخدعة إلاّ بوجود ما يطلق عليهم: السّكان الأصليون.
خير للمرء أن يكون من السّكان الأصليين في أسوأ لحظة من لحظات البؤس، من أن يكون مستوطِناً مستعمِراً.
مقتطفات من كتاب “معذّبو الأرض” – فرانز فانون
*إن المستعمِر يستمد حقيقته، وخيراته من النظام الاستعماري.
*إنّ المستعمَر “الشيء”، يصبح إنساناً بقدر ما يحقّق من عمل لتحرير ذاته.
*إنّنا نرى في البلاد الرأسمالية طائفة كبيرة من أساتذة الأخلاق، والموجهين، و”المصلحين”، تقف حائلاً بين المستغل والسلطة الحاكمة، أما في المناطق المستعمَرة فإن الدركي والشرطي، بحضورهما المباشر وتدخلاتهما السريعة الكثيرة، يظلان على اتصال بالمستعمَر وينصحانه بالعصا أو بالمواد المحرقة، أن لا يتحرك، وهكذا ترون أن وسيط السلطة الحاكمة يستعمل هنا لغة هي عنف صرف، إنّ الوسيط لا يخفف هنا الاضطهاد، ولا يسدل على السيطرة حجاباً، إنّه يعرضهما، وإنّه يظهرهما، إنّ الوسيط يحمل العنف هنا إلى بيوت المستعمَرين وإلى أدمغتهم.
إن ما يميز “الطبقة الحاكمة” أولاً وقبل كل شيء، النوع الذي جاء من مكان آخر، النوع الذي لا يشبه السكان الأصليين، هو نوع “الآخرين”.
إنّ المستعمِر لا يكتفي بالقول إنّ القيم قد نزحت عن المجتمع المستعمَر، أو إنها لم توجد فيه يومًا، وإنما يعلن عن استحالة نفاذ الأخلاق إلى نفوس السكان الأصليين، وإنّ القيم لا وجود لها عندهم.
إنّ الكنيسة هي في المستعمرات كنيسة للبيض، كنيسة أجانب، إنها لا تدعو الإنسان المستعمَر إلى طريق الله، وإنما تدعوه إلى طريق الإنسان الأبيض.
في فترة التّحرر من الاستعمار، فإنّ البرجوازية الاستعمارية تسعى في كثير من الحماسة إلى عقد صلات بالنخبة المثقفة، ومع تلك النخبة المثقفة يشرّعون الحوار حول القيم، إن البرجوازية الاستعمارية، حين تدرك عجزها عن الاستمرار في السيطرة على البلاد المستعمَرة، تقرّر أن تخوض معركة خلفيّة، في ميدان الثّقافة والقيم والتكتيك.
إن ّكلمات الأخ والأخت والرّفيق كلمات نبذتها البرجوازية الاستعمارية، فالأخ عندها محفظة النقود، والرّفيق عندها هو الصفقة الرابحة.
إن المستعمَر يرد على كذب الاستعمار بكذب مماثل، إن سلوكه صريح مع أهل وطنه، منكمش غامض مع المستعمِرين، الحق عنده هو ما يعجّل انهيار النّظام الاستعماري، هو ما يسهل بزوغ الأمة.
في الوضع الاستعماري ليس هناك إلزامية لقول الحقيقة، ولا يتمثّل الخير أيضًا إلا بما يلحق ضرراً بالمستعمِرين.
المستعمَر لا يعترف في قرارة نفسه بأيّ حكم يصدرونه في حقه، لقد سيطروا عليه لكنهم لم يطوّعوه.
أمّا النّخبة المثقفة، فهي في مسألة العنف غير واضحة الموقف. هي عنيفة في الأقوال، إصلاحية في المواقف والأعمال، إنّ المنظمات السياسية المحلية البرجوازية تقول شيئاً وتعني غيره.
إنّ الاستعمار ليس آلة فكر، ليس جسماً مزوداً بعقل، وإنّما هو عنف هائج لا يمكن أن يخضع إلا لعنفٍ أقوى.
إنّ عماد انتصار العنف هو إنتاج الأسلحة، وإنتاج الأسلحة يستند إلى عملية الإنتاج بوجه عام. القوة الاقتصادية للدولة ووسائلها المادية توضع تحت تصرّف العنف.
إنّ رجال السياسة الذين يخطبون، ويكتبون في الصحف الوطنية، يجعلون الشعب يحلم. صحيح أنهم يتحاشون فكرة نسف النظام القائم، ولكنهم في الواقع يبثون في ضمائر المستمعين والقراء ما يهيئ للنّسف.
إنّ الثّورات، والأفعال اليائسة، والجموع المسلحة بالخناجر أو الفؤوس، تجد وطنيتها في هذا الصّراع المستعر الذي يقوم بين الرأسمالية والاشتراكية.
إنّ بين العنف الاستعماري والعنف السلمي الذي يعيش في جوه العالم المعاصر نوعًا من التقابل والتجانس.
صحيح أنّ الاستقلال قد ردّ إلى المستعمَرين شعورهم بذاتهم وعّزز كرامتهم، ولكن الوقت لم يتسع لهم بعد من أجل إنشاء مجتمع، ومن أجل بناء وتأكيد قيم، إن البؤرة المشعة التي ينمو فيها المواطن والإنسان ويغتنيان في ميادين واسعة غير موجودة بعد.
إن عنف النظام الاستعماري، وعنف المستعمَر، يتوازيان ويتجاوبان في تجانس مشترك، وسيطرة العنف هذه لا بد أن تصبح أشد هولاً كلما زاد عدد المستوطنين. إنّ اشتداد العنف لدى الشعب المستعمَر سيكون مرافقًا للعنف الذي يمارسه النظام الاستعماري المرفوض.
إنّ الشعب المستعمَر لا يحصي ضحاياه، إنّه يعتبر الفراغ الضخم الذي حدث في صفوفه شرًا لا بدّ منه. لقد قرّر أن يردّ على العنف بالعنف، وسوف يقبل بجميع النتائج التي تترتب على ذلك.
إنّ العمل الذي يقوم به المستعمِر هو أن يجعل حتى أحلام المستعمَر في الحرية مستحيلة، والعمل الذي يقوم به المستعمَر هو أن يتصور جميع الوسائل الممكنة لإبادة المستعمِر.
***
إن هذه البحبوحة التي تتمتع بها أوروبا هي عار، لأنها قامت على أكتاف العبيد، وتغذّت من دماء العبيد. إنّ رخاء أوروبا وتقدّمها قد جُلبا من عرق وجثث الزنوج والعرب والهنود والصفر، هذا أمر قررنا أن لا ننساه.
ومتى عرف الرأسماليون، أن حكومتهم تتهيأ للجلاء عن المستعمرة، فإنهم يسارعون إلى سحب جميع رساميلهم عن هذه المستعمرة. إنّ هروب الرساميل بهذه السرعة هو مؤشّر من مؤشّرات زوال الاستعمار.
إنّ عمليّة إعادة إدخال الإنسانية إلى هذا العالم، إنّما يتم بمعونة الجماهيرالأوروبية التي يؤسفنا أنها كثيراً ما تحالفت مع مستعبدينا الذين هم مستعبدوها أيضاً، ومن أجل تحقيق ذلك، لا بّد أن تقرّر الجماهير الأوروبية أولاً أن تستيقظ من سباتها، وأن تحرّك أدمغتها، وأن تكف عن تمثيل ذلك الدور الذي كانت تمثله إلى الآن بغير شعور بالمسؤولية، دور الحسناء النائمة في الغابة.
إنّ الآفة الكبرى التي تعيب الأحزاب السياسية في المناطق المتخلفة هي أنها تتجه باهتمامها الأول إلى العناصر الواعية من الشعب.
إن الأكثرية الساحقة في الأحزاب الوطنية تشعر تجاه الجماهير الريفية بحذر كبير وارتياب شديد، إنها تحس أن هذه الجماهير عاطلة عقيمة، وما يلبث أعضاء الأحزاب الوطنية من عمال المدن والمثقفين، أن يصبح رأيهم في سكان الأرياف كرأي المستوطنين.
كلما حاولت النخبة أن تبذل الجهود في صفوف الجماهير الريفية تصدى لها زعماء القبائل، وزعماء الحلقات الدينية، وتصدّت لها السلطات التقليدية، فأخذت تصب عليها مزيداً من الوعيد والتّهديد وتكيل لها اتهامات الكفر والزندقة.
الفلاحون يسيئون الظن بابن المدينة ويحذرون منه.
يعمد الاستعمار أحياناً إلى تفريق الاندفاع القومي ويسعى إلى تشتيته، فلا يستفز المشايخ وزعماء القبائل على “ثوريي” المدن، وإنما يشكل من الجماعات الدينية والقبائل أحزاباً، في مواجهة حزب المدينة الذي أخذ يجسد الإرادة القومية، ويهدّد النظام الاستعماري. هذه التجمعات والتكتلات والأحزاب تقوم على أساس قبلي أو محلي.
المناضل الوطني الذي يقرر أن يهجر لعبة التخفي التي كان يلعبها مع الشرطة، وأن يربط مصيره بمصير جماهير الفلاحين، لا يخسر أبداً، إن الفلاحين يغطونه كمعطف، ويحنون عليه ويحمونه حماية لم تكن تخطر بباله.
إنّ هؤلاء العاطلين المنبوذين يجدون بالعمل النضالي الحاسم طريقهم إلى الاندماج في مجموع الأمة، إن هؤلاء الناس لا يرد اعتبارهم إليهم في نظر المجتمع الاستعماري وفي نظر الأخلاق التي ينادي بها المستعمِر، ذلك أنهم، على خلاف ذلك، إنما يسلكون إلى دخول المجتمع طريق القنبلة والمسدس، ولكن بذلك يستردون اعتبارهم في نظر أنفسهم وفي نظر التاريخ.
كلّما ظل القلق يهز الاستعمار، فإن القضية الوطنية تتقدم إلى الأمام، وتصبح قضية كل فرد من أفراد الأمة.
إنّ الجماعة التي رسخ في اعتقادها أنّ منطقتها هي الأمة بأسرها، ترفض أن ترخي الحبل، ولا تطيق أن تقاتل متراجعة، وبذلك تسقط ضحايا كثيرة، ويبدأ الشك في التسرب إلى النفوس، إن الفرقة المحلية تجابه الهجوم المحلي مجابهتها لمعركة حاسمة يتوقف عليها مصير الكفاح كله، إنها تتصرف تصرف من يحسب أن مصير البلاد كله يتقرر هنا.
إنّ القتال في حرب العصابات، لا يتم في المكان الذي يكون فيه المقاتل، بل في المكان الذي يذهب إليه، إنّ كلّ مقاتل في حرب العصابات إنما ينقل الوطن إلى حيث تمضي قدماه العاريتان.
إن الجماهير تصمد ثلاثة أيام، وربما ثلاثة شهور باستعمال الحقد المتراكم في صدرها، ولكنك لا تستطيع أن تفوز بالنصر في حرب تحريرية، وأن تحطم إرادة العدو الرهيبة، وأن تبدل الناس، إذا أغفلت رفع مستوى الوعي لدى المقاتل، ليس يكفيك تأجُّج الحماسة، ولا عنف الشجاعة، ولا جمال الشعارات.
إنّ التعصب العرقي، والكره، والحقد، والرغبة المشروعة في الانتقام، إن ذلك كله لا يمكن أن يغذي حربًا تحريرية.
على المناضل أن يفهم أن تنازلات الخصم لا ينبغي أن تضلّل الحقيقة أو أن تعميه، فهذه التنازلات ليست إلا تنازلات، وهي لا تمس جوهر الأمر.
يجب أن يعرف الشعب، وأن يعرف مجموع المناضلين ذلك القانون التاريخي، وهو أن هناك تنازلات ليست في حقيقتها إلا أغلالاً.
هناك أجزاء من الشعب لها مصالح خاصة لا تتفق اتفاقاً كاملاً دائماً مع المصلحة الوطنية.
يدرك الشعب أن هناك أناسًا من بني وطنه لا يتمسكون بمصالحهم فحسب، بل ينتهزون كذلك فرصة الحرب لتعزيز وضعهم المالي وقوتهم الناشئة، إن هناك أناساً من السكان الأصليين يتاجرون ويحققون أرباحاً طائلة من قيام هذه الحرب، على حساب الشعب الذي يضحي بنفسه دائماً.
إن الشعور القومي ما لم يكن تجسيدًا منسجمًا لأعمق مطامح الشعب بمجموعه، وما لم يكن ثمرة مباشرة حيّة نابضة للتعبئة الشعبية، فلن يكون في أحسن الأحوال إلا شكلاً لا مضمون له، سريع الزوال قليل الدّقة والوضوح، والصدوع التي تجدها فيه عندئذ هي السّبب في أن البلاد الناشئة المستقلة كثيراً ما تنتقل بسهولة من حالة الأمة إلى حالة القبيلة.
ما تفتأ البرجوازية الوطنية تطالب بتأميم الاقتصاد والقطاعات التجارية، ذلك أن التأميم عندها لا يعني وضع مجموع الاقتصاد في خدمة الأمة، وتحقيق كافة حاجات الأمة، وهو لا يعني تنظيم شؤون الدولة على أساس علاقات اجتماعية جديدة يراد تسهيل وجودها، وإنما يعني التأميم عندها نقل الامتيازات الموروثة من العهد الاستعماري إلى أهل البلاد.
إن البرجوازية المحلية تحتل الأمكنة التي كان يشغلها الأوروبيون، أطباء ومحامين وتجاراً وممثلي شركات ووكلاء عامين ووسطاء، إنها تشعر أن من واجبها، حفاظاً على كرامة البلاد، وحفاظاً على نفسها، أن تحتل جميع هذه المراكز.
إنّ البرجوازية المحليّة في أوّل عهدها تشبه البرجوازية الغربية في آخر عهدها، وكلّما ظنّت بأنها تغذي السّير وتحرق المراحل، فإنما هي في حقيقة الأمر تبدأ بالنهاية.
إن مالكي الأراضي يطالبون السلطات العامة بأن تحيل إليهم تلك التسهيلات والامتيازات التي كان ينعم بها المستوطنون الأجانب قبل الاستقلال، ويصبح استغلال العمال الزراعيين أقوى مما كان، ويصبح كذلك مشروعاً.
لئن كان التنافس يقوم بين الأوروبيين وبين المثقفين والبرجوازية في الأمة الفتية، فإن تنافساً مثله يقوم بين جماهير الشعب المقيمة في المدن وبين أفريقيين ينتمون إلى أمة أخرى.
يجب أن لا يدهشنا أن نسمع في بلد يسمي نفسه أفريقياً أفكاراً توصف أنها أفكار عرقية، وأن نرى تصرفات تفّرق بين الناس في القيمة، حتى ليحس المرء في البلد الأفريقي بأنّه في باريس أو بروكسل أو لندن، شاعراً بكثيرٍ من المرارة.
إنّ الوحدة الأفريقية لا يمكن أن تتحقق، إلا باندفاع الشعوب، وبقيادة الشعوب، أي رغم أنف البرجوازية ومصالحها.
في عدد من البلدان المتخلفة نرى النظام البرلماني فاسدًا فسادًا عميقًا، إنّ البرجوازية الوطنية، وهي ضعيفة إقتصاديًا، وعاجزة عن إقامة علاقات اجتماعية متسقة قائمة على مبدأ سيطرتها كطبقة، تختار الحل الذي يتراءى لها أنه أسهل الحلول، أعني نظام الحزب الواحد.
إن نظام الحزب الواحد هو الشكل الحديث للديكتاتورية البرجوازية التي لا تتقنّع ولا تتزين ولا يردعها حياء.
إنّ الزعيم، رغم أنّه كثيرًا ما يكون شريفًا، وكثيرًا ما ينطق بالصّدق، إنما هو من الناحية الموضوعية المدافع المتحمس عن مصالح البرجوازية المحليّة ومصالح الشركات الاستعمارية السابقة، أضف إلى ذلك أن شرفه وصدقه لا يلبثان أن يأخذا بالتّلاشي شيئاً فشيئًا، ذلك أن اتصاله بالشعب اتصال غير واقعي، فسرعان ما يقتنع أنّ الشعب أصبح متنكّرًا لسلطته، وأنّ الناس أخذوا يشكون في الخدمات التي قدمها لوطنه، ويقسو الزعيم قسوة شديدة في الحكم على هذه الجماهير التي لا تعترف بالجميل، وما ينفك ينحاز يوماً بعد يوم إلى معسكر المستغلين، ثم ينقلب انقلاباً واعياً إلى شريك للبرجوازية الناشئة التي تتخبط في أحضان الفساد واللذة.
مهما تكثر البرجوازية الحاكمة من التظاهرات، فإن الجماهير تظل عاجزة عن أن تؤخذ بالأوهام، الجماهير ما تزال جائعة، ومفوضو الشرطة الذين أصبحوا الآن أفريقيين بعد أن كانوا أوروبيين لا يطمئنون هذه الجماهير، فتشيح ببصرها ولا تعد تكترث بهذه الأمة التي لا تفتح لها أي أفق.
إنّ الحزب الذي جذب إليه أثناء مرحلة الكفاح مجموع الأمة يتحلل الآن، والمثقفون الذين انضموا إلى الحزب غداة الاستقلال يؤكدون بسلوكهم أن انضمامهم ذاك لم يكن له من هدف إلا الاشتراك في المائدة التي جاء بها الاستقلال. لقد أصبح الحزب وسيلة نجاح فردي.
إنّ البرجوازية المحليّة التي تبيع نفسها إلى الشركات الأجنبية الكبرى علنًا، ما تنفك تزداد، وبالرشوة ينتزع الأجنبي الامتيازات تلو الامتيازات، وتتكاثر الفضائح، ويغتني الوزراء وتستحيل نساؤهم إلى دمى، ويدبر النواب أمورهم أيضاً، ولا يبقى شرطي ولا موظف من موظفي الجمرك إلا ويشارك في هذه القافلة من الرشوة والفساد.
إن الطبقة البرجوازية في البلاد المستعمَرة تستمد قوتها الأساسية من الاتفاقات المعقودة مع السلطة الاستعمارية القديمة.
إن البلاد التي تريد حقاً أن تحل القضايا التي يطرحها عليها التاريخ وتريد حقاً أن تحقق لمدنها الازدهار، وأن تنمّي عقول سكانها، يجب أن يكون لها حزب حقيقي لا يكون أداة بين يدي الحكومة، بل أداة بين يدي الشعب.
يجب علينا في البلاد المتخلفة أن نضاعف الاتصال بالجماهير الريفية.
قد يعجز رجل منعزل عن فهم مشكلة من المشاكل، أما الجماعة في القرية بكاملها فإنها تفهم الأمور بسرعة تحير العقل.
إن استعمالك لغة تقنية فوقيّة في مخاطبة النّاس، يعني أنك قررت أن تنشئ جماهير جاهلة.
يجب أن لا ينصرف همنا إلى إيجاد الفرد الفذ، إلى خلق البطل، يجب أن نرفع مستوى الشعب، أن ننمي عقل الشعب، أن نجهز الشعب، أن نجعله إنسانيًّا.
إنّ الحزب الذي ينادي بالقومية ويؤكد أنّه يتكلم بلسان الشعب كله، إنّما يمارس في السّر ديكتاتورية قبلية حقيقية.
إن الانتقال من القمة إلى القاعدة، ومن القاعدة إلى القمة، يجب أن يكون هو المبدأ الصلب الذي نتمسك به أشد التمسك.
هناك تساوٍ مطلق بين الكرامة والسيادة، فالشعب الذي يتمتع بالكرامة هو الشعب الذي يتحمل المسؤولية.
كلُّ “متفرجٍ” هو جبان أو خائن.
من الأمور الأساسية أن يعرف الجندي أنه في خدمة بلده، لا في خدمة ضابط من الضباط مهما يكن لهذا الضابط من هيبة وتأثير.
لا وجود للأمّة إلا ببرنامج تنضجه قيادات ثوريّة وتعتنقه الجماهير اعتناقاً قائماً على الفهم الواضح والحماسة الثابتة.
إن النتيجة الكلية التي ترنو إليها السيطرة الاستعمارية هي أن تقنع السكان الأصليين بأن الاستعمار قد انتشلهم من الظلام.
إنّ الهدف التي سعى إليه الاستعمار سعيًا حثيثًا هو أن يدخل في وجدان السكان الأصليين أن رحيل المستوطن الأوروبي سيردهم إلى الهمجية والوحشية والحيوانية.
يبرهن الاستعمار على مشروعيته بكون البلاد التي يحتلها تفتقر إلى الثقافة.
إن المستعمَر حين يجدد أهداف وحركة الحرف والرقص والموسيقى والأدب وحكايات البطولة إنما يعيد بناء إدراكه للعالم، فيفقد العالم في نظره طابع اللعنة، وتتجمع عندئذ الشروط اللازمة لخوض المعركة التي لا بد من خوضها.
من الأخطاء الفادحة التي يصعب الدفاع عنها من جهة أخرى، أن نحاول تحقيق تجديدات ثقافية، وأن نحاول رد الاعتبار والقيمة إلى الثقافة المحليّة ونحن ما نزال في ظلّ السيطرة الاستعمارية.
إنّ أقوى دفاع، وأجدى دفاع عن الثقافات القومية، إنما يكون بالأخذ بالعقيدة القومية ولو في أبسط أشكالها وفي أكثر هذه الأشكال بدائية وفجاجة.
إن الكفاح المنظم الواعي الذي يخوضه شعب من الشعوب لاسترداد سيادة الأمة هو أكمل مظهر ثقافي ممكن، ليس نجاح الكفاح وحده هو الذي يهب الثقافة قيمة وصدقاً وقوة، بل إن معارك الكفاح نفسها تنمي، في انطلاقتها، مختلف الاتجاهات الثقافية وتخلق اتجاهات ثقافية جديدة.
إن الوعي القومي هو أنضج شكل من أشكال الثقافة.
إن الاستعمار من حيث هو نفي منظم للآخر، من حيث هو قرار صارم بإنكار كل صفة إنسانية على الآخر، ما يدفع بالشعب المستعمَر دائمًا على التساؤل: “من أنا في الواقع”؟.
ما من شيء غير القتال يستطيع حقاً أن يطرد تلك الأكاذيب التي تقال في حق الإنسان، والتي تخرب من هم أكثرنا وعياً.
لقد انقضت قرون وأوروبا تجمد تقدم البشر الآخرين وتستعبدهم لتحقيق أهدافها وأمجادها. انقضت قرون وهي باسم مغامرة روحية مزعومة، تخنق الإنسانية كلها تقريبا، أنظروا إليها الآن وهي تسقط بين تحلل الذّرّة وتحلل الروح.
إني حين أبحث عن الإنسان في التكنيك الأوروبي والأسلوب الأوروبي، لا أرى إلا سلسلة من الإنكارات للإنسان ومواكب من جرائم قتل الإنسان.
لا، نحن لا نريد اللحاق بأحد، ولكننا نريد أن نمشي طوال الوقت، ليلاً ونهاراً، مع الإنسان، في صحبة جميع البشر.
من أجل أنفسنا، ومن أجل الإنسانية، يجب علينا أن نلبس جلداً جديداً، أن ننشئ فكراً جديداً، أن نحاول خلق إنسان جديد.