في ذكرى عبدالرحمن الكواكبي (1855 – 1902)!
د.موفق محادين
نتذكر هذه الأيام المفكر العربي السوري، عبد الرحمن الكواكبي الذي توفي في حزيران 1902 في ظروف غامضة قيل حولها أنها نجمت عن تسميمه من قبل خديوي مصر.
عرف الكواكبي بكتابة (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) الذي كان أقرب إلى التصورات المثالية للمدينة الفاضلة ولكن بنكهة تجمع بين العلم والعدالة والتربية الأخلاقية وقيمة العمل وبين ما أسماه الكواكبي نفسه بروح الإسلام.
كما تحدث فيه عن ثلاث دوائر، الأولى الرابطة القومية (الأرض واللغة بصرف النظر عن الدين)، وهي رابطة دنيوية زمانية يحكمها الرؤساء والسلاطين والملوك، والثانية الجامعة الإسلامية كاتحاد روحي للروابط القومية وينبغي أن يكون على رأسها خليفة عربي، منوها في كل مرة إلى موقفه المناهض للعثمانيين باعتبارهم غزاة لا فاتحين.
مفاهيم تأسيسية عند الكواكبي
مفهوم الأمة
يتساءل الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد) ما الأمة: هل هي ركام مخلوقات، جمعية عبيد عند طاغية، مجاميع من أجل وطن وحقوق مشتركة. ويجيب بربط الأمة على نحو أقرب إلى المقاربة العرقية مقابل النزعة التركية العنصرية، مركزاً على اللغة والتاريخ (كما الحصري) وما يسميه الهوية السياسية الواحدة في إطار مضمون سياسي تحرري.
فصل الدين عن السياسية
في مقاربة أقرب إلى العلمانية، وبعد أن يخرج الدين (كما الحصري) من الركائز الأساسية في تعريف الأمة، يرى الكواكبي أن الدين هدى سماوي يحكم علاقات الإنسان بربه وآخرته، ولا نفوذ ديني في غير المسائل الدينية البحتة، ويدعو لفصل السلطتين، الدينية والسياسية.
الديمقراطية مقابل الاستبداد
مع ميله إلى القول أن الاستبداد قرين السلطة حتى لو كانت عادلة، إلا أنه يقرن الاستبداد بعدة عوامل منها: الجهل، قوة الجند ولا سيما الأغراب، قوة المال، وقوة رجال الدين وأنصار الأجانب، ويحدد تصوره للديمقراطية كنظام سياسي يستلزم تحديدات واضحة بين الإدارة العمومية السياسية وبين المواطنين، فالأصل أن هذه الإدارة نشأت لخدمة الناس وليس العكس.
الكواكبي والترك
لا يترك الكواكبي مناسبة دون أن ينتقد السياسات التركية (غالباً ما يتحدث عن الترك لا عن العثمانيين)، ويدين الحقبة التركية برمتها التي (تركت المسلمين صماً بكماً عمياً ولا مرشد)، ويكشف عن الخطاب العنصري التركي ضد العرب: استخدام كلمة عرب وعربي في معرض الحديث عن العبد أو الكلب وكل حيوان أسود، وكذلك تعبيرات مثل ديلنجي عرب، أي العرب الشحادون، وكور فلاح، أي الفلاحون الأجلاف.
كما يصف الحكام الأتراك بالميل إلى التسلط والاستبداد، ويتوقف عند صفات السلطان العثماني وألقابه، مثل: سلطان السلاطين، صاحب العظمة والجلال، واهب الحياة، مهبط الإلهامات ومصدر الكرامات، ولي نعمة الثقلين…
أم القرى
يقدم الدكتور محمد عبدالرحمن برج الكتاب بعقد مقارنة بين مساهمات المصلح العربي السوري، عبدالرحمن الكواكبي والمساهمات الأخرى وخاصة جمال الدين الأفغاني فمقابل المشترك بينهما في التأكيد على اللغة العربية، الأفغاني في قوله لا جامعة لقوم لا لسان لهم، وفي تأكيده على اللسان العربي والكواكبي في اشتراطه لعضو الجمعية التي دعا إلى تأسيسها أن يكون عارفاً باللغة العربية المصرية القرشية.
وكذلك مقابل رفض الرجلين للجبرية، واهتمامهما لهذه الغاية بتأسيس جمعية هي (العروة الوثقى) عند الأفغاني، وتعليم الموحدين عند الكواكبي – إلا انهما اختلفا حول قيادة الأمة حيث ركز الكواكبي على العرب فيما تراوح خطاب الأفغاني بين الشرقيين الإسلاميين كما اعتبر الأفغاني أن مشكلة المسلمين الاستعمار الأوروبي فيما أحال الكواكبي هذه المشكلة إلى العثمانيين الذين لم يستعربوا.
أما الكتاب نفسه (أم القرى) فهو تصورات صاغها الكواكبي على شكل حوارات بين عدد من العلماء العرب والمسلمين اجتمعوا في مكة على مدار 12 اجتماعاً وانتهوا إلى الخلاصات التالية:
-
في الاجتماع الأول (1316هـ) توصلوا إلى المقاصد التالية:
الأول منها: بيان الحالة الحاضرة، ووصف أعراضها بوجه عام وصفاً بديعاً يفيد التأثر ويدعو إلى التدبر.
والثاني: بيان أن سبب الخلل النازل هو الجهل الشامل، بيان إجمال وتلميح، مع أن المقام يقتضي عدم الاحتشام من التفصيل والتشريح.
والثالث: إنذار الأمة بسوء العاقبة المحدقة بها إنذاراً هائلاً تطير منه النفوس، مع أن الحال الواقع لا تغني فيه النذر.
والرابع: توجيه اللوم والتبعية إلى الأمراء والعلماء والكافة لتقاعسهم عن استعمال قوة الاتفاق على النهضة، مع أن الاتفاق وهم متشاكسون متعذر لا متعسر.
وينتهي الاجتماع برأي الرئيس الذي يحذر من القنوط واليأس، ويدعو إلى بناء جمعية منظمة لمواجهة ذلك:
واني أسلفكم، أيها السادات، أنه ينبغي أن لا يهولنا ما ينبسط في جمعيتنا من تفاقم أسباب الضعف والفتور، كيلا نيأس من روح الله، وأن لا نتوهم الإصابة في قول من قال: (أننا أمة ميتة فلا ترجى حياتنا)، كما لا إصابة في قول من قال: (إذا نزل الضعف في دولة أو أمة لا يرتفع)، فهذه “الرومان” و”اليونان” و”الأمريكان” و”الطليان” و”اليابان”، وغيرها، كلها أمم أمثالنا استرجعت نشأتها بعد تمام الضعف وفقد كل اللوازم الأدبية للحياة السياسية، بل ليس بيننا، ولا سيما عرب الجزيرة منا، وبين أعظم الأمم الحية المعاصرة فرق سوى في العلم والاخلاق العالية.
ثم أيقنوا، أيها الاخوان، أن الأمر ميسور، وأن ظواهر الأسباب ودلائل الأقدار مبشرة أن الزمان قد استدار، ونشأ في الإسلام أنجاب أحرار وحكماء أبرار يعد واحدهم بألف وجمعهم بألف ألف. فقوة جمعية منتظمة من هؤلاء النبلاء كافية لأن تخرق طبل حزب الشيطان، وتسترعي سمع الأمة مهما كانت في رقاد عميق، وتقودها إلى النشاط وإن كانت في فتور مستحكم عتيق. على أن محض انعقاد جمعيتنا هذه لمن أعظم تلك المبشرات، خصوصاً إذا وفقها الله تعالى بعنايته لتأسيس جمعية قانونية منتظمة، لأن الجمعيات المنتظمة يتسنى لها الثبات على مشروعها عمراً طويلاً يفي بما لا يفي به عمر الواحد الفرد.
-
في الاجتماع الثاني ينبه الرئيس إلى خطورة الإصرار على الرأي الذاتي وبناء على ذلك فما أحد منا ملزم برأي يبديه، ولا هو بملوم عليه، وله أن يعدل أو يرجع عنه إلى ضده، لأننا إنما نحن باحثون لا متناظرون.
وعندي إن البلية فقدنا الحرية، وما أدرانا ما الحرية؟ هي ما حرمنا معناه حتى نسيناه، وحرم علينا لفظه حتى استوحشناه، وقد عرف الحرية من عرفها: “بأن يكون الإنسان مختاراً في قوله وفعله لا يعترضه مانع ظالم”.
ومن فروع الحرية تساوي الحقوق، ومحاسبة الحكام باعتبار أنهم وكلاء، وعدم الرهبة في المطالبة وبذل النصيحة، ومنها: حرية التعليم، وحرية الخطابة والمطبوعات، وحرية المباحثات العلمية، ومنها العدالة بأسرها، حتى لا يخشى انسان من ظالم أو غاصب.
-
في الاجتماعات التالية، تحذير من العلماء المدلسين وغلاة المتصوفين الذين استولوا على الدين فضيعوه وضيعوا أهله وكذلك من تقصيرات العلماء الأقدمين واقتصارات المتأخرين، وتباعد المسلمين إلى الآن عن العلوم النافعة الحيوية، جعلتهم أحط بكثير عن الأمم، فبناء عليه يكون ناموس الارتقاء هو المسبب لهذا الفتور، كما قال تعالى: “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”.
-
في الاجتماع السابع يلخص السيد الفراتي (الاسم الرمزي للكواكبي) رأيه في كل ما سبق بالأسباب التالية:
النوع الأول: الأسباب الدينية وهي 23 سبباً أبرزها: تأثير عقيدة الجبر وتشويش أفكار الأمة بكثرة تخالف الآراء في فروع أحكام الدين، ودور العلماء المدلسين وغلاة الصوفية والمنجمين والمشعوذين الذين يخلعون القلوب بالمرهبات والتعصب المذهبي والعناد على نبذ الحرية الدينية وتكليف المسلم ما لا يكلفه الله به وتهاونه فيما هو مأمور فيه.
النوع الثاني: الأسباب السياسية أبرزها السياسة المطلقة وحرمان الأمة من حرية القول والعمل وفقد العدل والمساواة وميل الحكام للعلماء المدلسين وفسادهم وأخذ الأموال من الأغنياء إلى الفقراء وحصر الاهتمام بالجباية والجندية.
النوع الثالث: الأسباب الأخلاقية مثل الجهل واليأس التملق والكسل وفساد التعليم والوعظ والخطابة والإرشاد وإهمال طلب الحقوق العامة جبناً وخوفاً وتفضيل الارتزاق بالجندية والخدم الأميرية على الصنائع وفقد قوة الجمعيات وأهميتها، وتوهم أن الدين قائم في العمائم وفقد القوة المالية الاشتراكية بسبب التهاون في الزكاة.
النوع الرابع: أسباب شتى مثل ترك الاعتناء بتعليم النساء.
-
في الاجتماع الثاني عشر، إقرار قانون جمعية تعليم الموحدين ومركزها (مكة المكرمة) مع شعبات في بلدان ومدن عربية وإسلامية عديدة مثل مصر وعدن والشام وطهران واسطنبول وكابول ودلهي ومراكش… كما أكدت القضية (المادة 16) أن الجمعية لا تنتسب إلى مذهب بعينه.
-
ذيل أو ملحق رقم 6 ويؤكد على دور العرب عموماً وسكان الجزيرة العربية خصوصاً في كل ما يخص شأن المسلمين ويعطي لأهل الجزيرة دوراً كبيراً في السياسة الدينية وللمصريين في الحياة المدنية والتنظيمية وللأتراك في السياسة الخارجية، وللأفغان والخزر والقفقاس والمغاربة في الحياة العسكرية، ولإيران والهند وآسيا الوسطى في الحياة الاقتصادية والعلمية.